ـ روي ـ إن إبراهيم ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة.
فإن قلت : هل وجد القول من الله تعالى حيث قال :﴿قُلْنَا يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا﴾ أو هو تمثيل؟ قلت : جعل الله النار باردة من غير أن يكون هناك قول وخطاب لقوله تعالى :﴿أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (يس : ٨٢).
وذهب بعضهم إلى أن ذلك القول قد وجد والقائل هو الله أو جبريل قال بأوامر الله.
قال ابن عطاء سلام إبراهيم من النار بسلامة صدره لما حكي الله عنه ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الصافات : ٨٤) أي : خاللٍ من جميع الأسباب والعوارض وبردت عليه النار لصحة توكله ويقينه مع أن نار العشق غالبة على كل شيء، وفي "المثنوي" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٨
عشق آن شعله است كو ون بر فروخت
هره جز معشوق باقى جمله سوخت
٤٩٩
در ناه لطف حق بايد كريخت
كو هزاران لطف بر ارواح ريختتا ناهى يابى آنكه ون ناه
آب وآتش مر ترا كردد ساه
نوح وموسى را نه دريا يار شد
نى بر اعدا شان بكين قهارشد
آتش ابراهيم را نى قلعه بود
تا برآورد از دل نمرود دود
كوه يحيى را نه سوى خويش خواند
قاصدانش را بزخم سنك راند
كفت اى يحيى بيا در من كريز
تا ناهت باشم از شمشيرتيز
فإن قلت لم ابتلاه الله بالنار في نفسه؟ قلت : كل رسول أتى بمعجزة تناسب أهل زمانه فكان أهل ذلك الزمان يعبدون النار والشمس والنجوم معتقدين أنها من حيث أرواحها تربي الهياكل والأجسام بخاصية طبائع هن عليها فأراهم الله تعالى الحق أن العنصر الأعظم عندهم هو حقيقة الشمس وروح كرة الأثير والنجوم ولا تضر تلك الآلهة إلا بإذن الله بسريان القدرة القاهرة في حقائق العناصر.
وقيل : ابتلاه الله بالنار لأن كل إنسان يخاف بالطبع من صفة القهر كما قيل لموسى :﴿وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى﴾ (طه : ٢١) فأراه تعالى أن النار لا تضر شيئاً إلا بإذن الله تعالى وإن ظهرت بصفة القهر ولذلك أظهر الجمع بين التضاد بجعلها برداً وسلاماً ومعجزة قاهرة لأعدائه المعتقدين بوصف الربوبية للعنصر الأعظم فكان ابتلاؤه بالنار معجزة ساطعة لعبدة النيران والنجوم كذا في "أسئلة الحكم" ﴿وَأَرَادُوا بِه كَيْدًا﴾ مكراً عظيماً في الاضرار به ﴿فَجَعَلْنَـاهُمُ الاخْسَرِينَ﴾ أي : أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق برهاناً قاطعاً على أنه على الحق وهم على الباطل وموجباً لارتفاع درجته واستحقاقهم لأشد العذاب، وفي "المثنوي" :
هركه بر شمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وز اوون توخفاشان بسى بينند خواب
كين جهان ماند يتيم از آفتاب
اى بريده آن لب وحلق ودهان
كه كند تف سوى مه با آسمان
تف برويش باز كردد بى شكى
تف سوى كردون نيابد مسلكى
تا قيامت تف برو بارد زرب
همو تبت برروان بو لهب
وقيل :﴿فَجَعَلْنَـاهُمُ الاخْسَرِينَ﴾ أي : من الهالكين بتسليط البعوض عليهم وقتله إياهم وهو أضعف خلق الله تعالى وما برح النمرود حتى رأى أصحابه قد أكلت البعوض لحومهم وشربت دماءهم ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت إلى دماغه وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد فأقام بهذا نحواً من أربعمائة سنة وقد سبق في سورة النحل ﴿وَنَجَّيْنَـاهُ﴾ أي : إبراهيم من الإحراق ومن شر النمرود.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٨
﴿وَلُوطًا﴾ هو ابن أخي إبراهيم اسمه هاران مهاجراً ﴿إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ﴾ أي : من العراق إلى الشام.
قيل : كانت واقعة إبراهيم مع النمرود بكوثى في حدود بابل من أرض العراق فنجاه الله من تلك البقعة إلى الأرض المباركة الشامية.
وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له : إلى أين؟ فقال : إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم وقد كان الله تعالى بارك في الأرض المقدسة ببعث أكثر الأنبياء فيها ونشر شرائعهم
٥٠٠
هي البركات الحقيقية الموصلة للعالمين إلى الكمالات والسعادة الدينية والدنيوية وبكثرة الماء والشجر والثمر والحطب وطيب عيش الغني والفقير.
وقال أبي بن كعب : سماها مباركة لأن ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس وقد كان لوط النبي آمن بإبراهيم بن تارخ وهو لوط بن هاران بن تارخ بن تاخور وآزر لقب تارخ وكان هاران وإبراهيم أخوين وآمنت به أيضاً صارة بنت عم إبراهيم وسارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم فخرج من كوثى مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله ثم ارتحل منها ونزل بفلسطين ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر ثم خرج من مصر وعاد إلى أرض الشام ونزل لوط بالمؤتفكة وبعثه الله نبياً إلى أهلها.