جسده حتى بقي العظام والقلب واللسان والأذنان والعينان ولما قصد قلبه الذي هو منبع المعرفة ومعدن النبوة والولاية ولسانه الذي هو مصدر الذكر ومورد التوحيد غار عليه وخاف أن ينقطع عن طاعة الله وتسبيحه بالكلية فإنه كان من ضعف الحال بحيث لا يستطيع القيام للصلاة فلما انتهى وقت الابتلاء وحصل الفناء التام في مقام البلاء وألهمه الله الدعاء ليوصله إلى مرتبة البقاء ويتجلى له بالجمال واللقاء بعد الجلال والأذى كما أخبر عنه بقوله :﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ أي : دعاه ﴿إِنِّى﴾ أي : بأني ﴿مَسَّنِىَ﴾ أصابني ﴿الضُّرُّ﴾ (رنج وسختى) قالوا : الضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما ﴿وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ﴾ بين افتقاره إليه تعالى ولم يقل ارحمني لطفاً في السؤال وحفظاً للأدب في الخطاب فإن أكثر أسئلة الأنبياء في كشف البلاء عنهم إنما هي على سبيل التعريض.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٢
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
وقال الحافظ :
أرباب حاجتيم وزبان سؤال نيست
در حضرت كريم تمناه حاجتست
فإن قيل أليس صرح زكريا في الدعاء قال :﴿وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا﴾.
قلنا : هذا سؤال العطاء لا يجمل به التعريض ودلك كشف البلاء فيجمل به التعريض لئلا يشتبه بالشكاية.
ـ ويحكى ـ أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصى فقال لها : الطفت في السؤال لا جرم لاردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حباً.
فهذا القول من أيوب دعاء وتضرع وافتقار لا جزع وشكاية كما هو حال الاضطرار ولذا جاء جوابه بلفظ الاستجابة وقال تعالى في حقه :﴿إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ﴾ وعلى تقدير تضمنه الشكاية فقد اشتكى من البلوى إليه تعالى لا إلى غيره وهو لا ينافي الصبر الجميل كما قال يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فصبر جميل والعارف الصادق إذا كان متحققاً في معرفته فشكواه حقيقة الانبساط ومناداته تحقيق المناجاة وأساه في بلاء حبيبه حقيقة المباهاة ولسان العشق لسان التضرع والحكاية لا لسان الجزع والشكاية كما أشار العاشق :
بشنوازنى ون حكايت ميكند
از جداييها شكايت ميكند
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن كل ما كان لأيوب من الشكر والشكاية في تلك الحالة كان مع الله لا مع غيره وإلى أن بشرية أيوب كانت تتألم بالضر وهو يخبر عنها ولكن روحانيته المؤيدة بالتأييد الإلهي تنظر بنور الله وترى في البلاء كمال عناية المبتلي وعين مرحمته في تلك الصورة تربية لنفسه ليبلغها مقام الصبر ورتبة نعمة العبدية وهو يخبر عنها ويقول :﴿مَسَّنِىَ الضُّرُّ﴾ من حيث البشرية بنور فضلك ﴿وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ﴾ عليّ بأنك تترحم عليّ بهذا البلاء ومس الضر وقوة الصبر عليه لتفني نفسي عن صفاتها وفي العجلة وتبقى بصفاتك : منها الصبر والصبر من صفات الله لا من صفات العبد كقوله تعالى :﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ﴾ (النحل : ١٢٧) والصبور هو الله تعالى.
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ (س اجابت كرديم دعاى وبرا) ﴿فَكَشَفْنَا﴾ (بس
٥١٣
ببرديم) ﴿مَا بِه مِن ضُرٍّ﴾ (آنه ويرابود ازرنج يعنى اور اشفاداديم).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٢
ـ روي ـ أنه قيل له يوم الجمعة عند السحر أو وقت زوال الشمس ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك أي : اضرب بها الأرض فركض فنبعت من تحتها عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دودة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحاً ورجع إلى شبابه وجماله ثم كسى حلة.
قال بعض الكبار : السر في ابتلائه تصفية وجوده بالرياضات الشاقة وأنواع المجاهدات البدنية لتكميل المقامات العلية فأمر بضرب أرض النفس ليظهر له ماء الحياة الحقيقية متجسداً في عالم المثال فيغتسل به فتزول من بدنه الأسقام الجسمانية ومن قلبه الأمراض الروحانية فلما جاهد وصفا استعداده وصار قابلاً للفيض الإلهي ظهر له من الحضرة الروحانية ماء الحياء فاغتسل به فزال من ظاهره وباطنه ما كان سبب الحجاب والبعد عن ذلك الجناب الإلهي انتهى.
وأراد الله تعالى أن يجعل الدود عزيزاً بسبب صحبة أيوب فإن الدود أذل شيء وصحبة الشريف تعزه كما أعز حوت يونس فلما تناثرت منه صعدت إلى الشجرة وخرج من لعابها الإبريسم ليصير لباساً ببركة أيوب، قال الشيخ سعدي قدس سره :
كلي خوشبوى درحمام روزى
رسيد ازدست محبوبى بدستم
بدو كفتم كه مشكى يا عبيرى
كه ازبوى دلاويز تومستم
بكفتا من كل نايز بودم
وليكن مدتى باكل نشستم
كمال همنشين برمن اثر كرد
وكرنه من همان خاكم كه هستم