واعلم أن للصلاح بداية وهي الأخذ بالشرائع والأحكام ورفض المنهي والحرام ونهاية وهي التوجه إلى رب العباد وعدم الالتفات إلى عالم الكون والفساد وهي في الحقيقة مقام الصديقية وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحاً وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده فإن من العباد من اختار الله له في الأزل البلوغ بلا كسب ولا تعمل فوقع مفطوراً على النظر إليه بلا اجتهاد بدفع غيره عن مقتضى قصده ومنهم من شغلته الأغيار عن الله زماناً فلم يزل في علاج وجودها بتوفيق الله حتى أفناها ولم يبق له سواه سبحانه.
ثم الصبر من مراتب الصلاح.
وعن يزيد الرقاشي رحمه الله قال : إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر يظله والصبر يحاجه يقول : دونكم صاحبكم فإن حججتم وإلا فأنا من ورائه يعني إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب وإلا فأنا أكفيكم ذلك وأدفع عنه العذاب فهذا الخبر دليل على أن الصبر أفضل الأعمال والرضى أجل الصفات ولا يكون الصبر إلا على بلاء ومشقة فالترقي إنما هو بالصبر لا بنفس البلاء ولو كان البلاء بما هو بلاء يرفع
٥١٥
درجات من قام به عند الله وينال به السعادة الأبدية لنالها أهل البلاء من المشركين والكفار بل هو في حقهم تعجيل لعذابهم وفي حق المؤمنين الصابرين تكميل لدرجاتهم وحط من خطيآتهم وإكسير لنحاس وجودهم، وفي "المثنوي" :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همو صبر آدم نديدون بمانى بسته دربند حرج
صبر كن الصبر مفتاح الفرجشكر كويم دوست را درخير وشر
زانكه هست اندر قضا ازبدبترونكه قسام اوست كفر آمد كله
صبر بايد صبر مفتاح الصله
غير حق جمله عدو انداوست دوست
باعدو ازدوست شكوت كى نكوست
تادهد دوغم نخواهم انكبين
زانكه هر نعمت غمى دارد قرين
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٥
﴿وَذَا النُّونِ﴾ أي : واذكر صاحب النون أي : الحوت والمراد يونس بن متى بفتح الميم وتشديد التاء المثناة فوق مفتوحة.
قيل : هو اسم أم يونس كذا في "جامع الأصول".
قال عطاء : سألت كعباً عن متى أهو اسم أبيه أم أمه فقال : اسم أبيه وأمه بدورة وهي من ولد هارون وسمي يونس بذي النون لأنه ابتلعه الحوت.
قال الإمام السهيلي أضافه هنا إلى النون وقد قال في سورة القلم :﴿وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ (القلم : ٤٨) وذلك أنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال ذو النون فإن الإضافة بذو أشرف من الإضافة بصاحب لأن قولك ذو يضاف إلى التابع وصاحب إلى المتبوع تقول أبو هريرة رضي الله عنه صاحب النبي عليه السلام ولا تقول النبي صاحب أبي هريرة الأعلى جهة وأما ذو فإنك تقول ذو المال وذو العرش فتجد الاسم للاسم متبوعاً غير تابع ولفظ النون أشرف من الحوت لوجوده في حروف التهجي وفي أوائل بعض السور نحو ﴿ا وَالْقَلَمِ﴾ (القلم : ١) ﴿إِذ ذَّهَبَ﴾ أي : اذكر خبره وقت ذهابه حال كونه ﴿مُغَـاضِبًا﴾ مراغماً لقومه أهل نينوى وهي قرية بالموصل لما مر من طول دعوته إياهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجراً عنهم قبل أن يؤمر وبناء المفاعلة للدلالة على كمال غضبه والمبالغة فيه وقيل وعدهم بنزول العذاب لأجل معلوم وفارقهم ثم بلغه بعد مضي الأجل أنه تعالى لم يعذبهم ولم يعلم سببه وهو أنهم حين رأوا أمارات العذاب تابوا وأخلصوا في الدعاء فظن أنه كذبهم وغضب من اندفاع العذاب عنهم وذهب غضبان وهذا القول أنسب بتقرير الشيخ نجم الدين في "تأويلاته" وهو من كبار المحققين فكلامه راجح عند أهل اليقين ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي : لن نضيق عليه الأمر يقال قدر على عياله قدراً ضيق وقدرت عليه الشيء ضيقته كأنما جعلته بقدر خلاف ما وصف بغير حساب نزل حاله منزلة من يظن ذلك.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الإنسان إذا استولى عليه الغضب يلتبس عليه عقله ويحتجب عنه نور إيمانه حتى يظن بالله ما لا يليق بجلاله وعظمته ولو كان نبياً وإن من كمال قوة نبينا عليه السلام أنه كان يغضب ولا يقول في الرضى والغضب إلا الحق.
وفيه إشارة أخرى وهي أن الله تعالى من كمال فضله وكرمه على عباده وإن كانوا عصاة مستوجبين للعذاب أن يعاتب أنبياءه لهم ولا يرضى عنهم اشتهاء نزول عذاب الله بقومهم وكراهية دفع العذاب عنهم بل يرضى لهم أن يستغفروا لهم ويستعفوه
٥١٦
لدفع العذاب عنهم كما قال لنبينا عليه السلام :﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (آل عمران : ١٥٩) وقال في حق الكفار وكان النبي عليه السلام يلعن بعضهم ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ﴾ (آل عمران : ١٢٨) انتهى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٦