ـ روي ـ أنه حين خرج مغاضباً أتى بحر الروم فوجد قوماً هيأوا السفينة فركب معهم فلما توسطت السفينة البحر وقفت ولم تجر بحال فقال الملاحون هنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا إلا وفيها عاص أو آبق ومن عادتنا إذا ابتلينا بهذا البلاء أن تقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه فأوحى الله تعالى إلى الحوت أن لا تؤذي منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً ﴿فَنَادَى﴾ الفاء فصيحة أي : فكان ما كان من القرعة والتقام الحوت فنادى ﴿فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ أي : في الظلمة الشديدة المتكافئة أو في ظلمات بطن الحوت والبحر والليل.
وقال الشيخ السمرقندي في تفسيره وعندي والله أعلم أن تلك الظلمات كانت من الجهات الست كما قال عليه السلام :"ورأيت رجلاً من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير في الظلمات" ﴿ءَانٍ﴾ أي : بأنه ﴿لا إله إِلا أَنتَ﴾.
قال في "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الروح الشريف إذا ألقي في بحر الدنيا والتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء وابتلع حوت النفس حوت القالب يكون من النوادر سلامة الروح من آفات النفس بحيث لا تتصرف فيه ولا تغيره عن صفاته بوحي الحق إليها بأن لا تؤذيه فإني لم أجعله طعمه لك وإنما جعلتك حرزاً وسجناً له كما كان حال يونس وسلامته في بطن الحوت من النوادر ومن سلامة الروح أن يناديه في ظلمة النفس وظلمة القالب وظلمة الدنيا أن لا إله إلا أنت أي : لا إله يحفظني من هذه الظلمات ويسلمني من آفاتها وفتنتها ويلهمني أن أذكره في هذا الموطن على هذه الحالة إلا أنت ﴿سُبْحَـاـنَكَ﴾ أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يعجزك شيء وأن يكون ابتلائي هذا بغير سبب من جهتي كما قال في "المثنوي" :
هره برتو آيد ازظلمات غم
آن زبى باكى وكستاخيست هم وفي "التأويلات النجمية" : نزهه عن الظلم عليه وإن كان فعله بخلق فيه كما قال تعالى :﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الصافات : ٩٦) ونسب الظلم إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً ورعاية للأدب فقال :﴿إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ لأنفسهم بتعريضها للهلاك حيث بادرت إلى المهاجرة، وفي "المثنوي" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٦
ون بكويى جاهلم تعليم ده
ايننين انصاف از ناموس بهاز در آموز اى بوشن جبين
ربنا كفت وظلمنا يش ازين
نى بهانه كردونى توير ساخت
نى لو اى مكر وحيلت برفراخت
وفي "عرائس البقلى" قدس سره أن الله أراد ليونس معراجاً ومشاهدة في بطن الحوت فتعلل بالأمر والنهي والمقصود منه القربة والمشاهدة فأراه الحق في طباق الثرى في ظلمات بطن الحوت ما رأى محمد عليه السلام فوق العرش فلما رأى الحق تحير في حاله فقال :﴿لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ نزهتك عما ظننت فيك فأنت بخلاف الظنون وأوهام الحدثان
٥١٧
﴿إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ في وصف جلالك إذ وصفي لا يليق بعزة وحدانيتك فوقع هذا القول منه موقع قول سيد المرسلين حيث قال :"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ولذلك قال عليه السلام :"لا تفضلوني على أخي يونس" فلما رأى ما رأى استطاب الموضع فظن أن لا يدرك ما أدرك في الدنيا بعد فغاب الحق عنه فاهتم ودعا بالنجاة فنجاه الله من وحشة بطن الحوت بقوله :


الصفحة التالية
Icon