واعلم أن الدار الآخرة وثوابها إنما ينال إليها بترك الدنيا وزخارفها كما أن وصلة المولى لا تحصل إلا بترك الكونين فمن كان مشتهاه الجنة ونعيمها فليترك اللذة في الدنيا ومن كان مشتهاه المشاهدات فليقطع نظره عن غير الله تعالى.
قال في الفتوحات الملكية : اجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب وقالوا إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفاً على نفسه من الفتنة التي حذرها الله منها بقوله :﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (التغابن : ١٥) انتهى كلامه.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراوي
٥٢٥
رحمه الله : ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدخرون قوتاً لغد لا يكنزون فضة ولا ذهباً قال ورأيت شخصاً قال لراهب انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي : الملوك فلم يرض وقال النظر إلى الدنيا منهى عنه عندنا قال ورأيت الرهبان مرة وهم يسحبون شخصاً ويخرجونه من الكنيسة ويقولون له أتلفت علينا الرهبان فسألت عن ذلك فقالوا : رأوا على عمامته نصفاً مربوطاً فقلت لهم : ربط الدرهم مذموم فقالوا : نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلّم قال بعض الحكماء إن في الجنة راحة لا يجدها إلا من لم يكن له في الدنيا راحة وفيها غنى لا يجده إلا من ترك الفضول في الدنيا واقتصر على اليسير منها وفيها أمن لا يجده إلا أهل الخوف والفزع في الدنيا :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخو رازبر اى خائف آن
وفيها ما تشتهي الأنفس لا يجده إلا أهل الزهد.
وعن بعض الزهاد أنه كان يأكل بقلاً وملحاً من غير خبز فقال له رجل : اقتصرت على هذا قال : نعم لأني إنما جعلت الدنيا للجنة وأنت جعلت الدنيا للمزبلة يعني تأكل الطيبات فتصير إلى المزبلة وإني آكل لإقامة الطاعات لعلي أصير إلى الجنة نسأل الله الفيض والجود والتوفيق بطريق الشهود.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٥
﴿يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ﴾ منصوب باذكر والطي ضد النشر ﴿كَطَىِّ السِّجِلِّ﴾ وهي الصحيفة أي : طياً كطي الطومار ﴿لِلْكُتُبِ﴾ متعلقة بمحذوف هو حال من السجل أي : كائناً للكتب عبارة عن الصحائف وما كنت فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي الحقيق.
وقال الإمام السهيلي ذكر محمد بن حسن المقري عن جماعة من المفسرين أن السجل ملك في السماء الثالثة ترفع إليه أعمال العباد ترفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت.
وفي السنن لأبي داود : السجل كاتب كان للنبي عليه السلام وهذا لا يعرف في كتاب النبي ولا في أصحابه من اسمه السجل ولا وجد إلا في هذا الخبر انتهى كلام السهيلي رحمه الله.
قال في "إنسان العيون" : لم يذكر في القرآن من الصحابة رضي الله عنهم أحد باسمه إلا زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما لم يذكر امرأة باسمها إلا مريم.
قال ابن الجوزي إلا ما يرى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى :﴿يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ﴾ إلى آخره اسم رجل كان يكتب لرسول الله عليه السلام انتهى.
وفي "القاموس" السجل اسم كاتب للنبي عليه السلام واسم ملك ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ ما كافة تكف الكاف عن العمل وأول مفعول لبدأنا أي : نعبد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجاداً بعد العدم وهو لا ينافي الإعادة من عجب الذنب.
قال في "البحر" أي : نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة القديمة لهما على السواء ﴿وَعْدًا﴾ أي : وعدنا الإعادة وعداً ﴿عَلَيْنَآ﴾ أي : علينا إنجازه وبالفارسية (برماست وفاكردن بدان) ﴿إِنَّا كُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ ذلك لا محالة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٦
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى طي سماء الوجود الإنساني بتجلي صفة الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء كما بدأنا أول خلق من ابتداء النطفة بالتدريج من خلق النطفة علقة ومن خلق العلقة مضغة ومن خلق المضغة عظاماً إلى انتهاء خلق الإنسان ومن وصف النباتية إلى وصف المركبية ومن وصف المركبية إلى وصف مفردات العنصرية ومن وصف المفردية إلى وصف الملكوتية ومن وصف الملكوتية إلى وصف الروحانية
٥٢٦
ومن وصف الروحانية إلى وصف الربوبية بجذوة ارجعي إلى ربك وعداً علينا في الأزل إنا كنا فاعلين إلى الأبد.