وفي الحديث :"ثلاثة حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله" واختلفوا فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فقال أبو حنيفة رحمه الله ومالك : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حراً وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار وقال الشافعي وأحمد : يموت رقيقاً وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع.
﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ﴾ أي : إماءكم فإن كلاً من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة وباعتبار المفهوم الأصلي وهو أن الفتى الطري من الشباب ظهر مزيد مناسبة الفتيات لقوله تعالى :﴿عَلَى الْبِغَآءِ﴾ وهو الزنى من حيث صدوره عن الشواب لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالباً دون من عداهن من العجائز والصغائر يقال : بغت المرأة بغاء إذا فجرت وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها ثم الإكراه إنما يحصل متى حصل التخويف بما يقتضي تلف النفس أو تلف العضو وأما باليسير من التخويف فلا تصير مكرهة.
﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ تعففاً أي جعلن أنفسهن في عفة كالحصن وهذا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى وإخراج ما عداها من حكمه بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه وكان لعبد الله بن أُبَي ست جوار جميلة يكرههن على الزنى وضرب عليهن ضرائب جمع ضريبة وهي الغلة المضروبة على العبد والجزية فشكت اثنتان إلى رسول الله وهما معاذة ومسيكة فنزلت وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه من إمائه فضلاً عن أمرهن أو إكراههن عليه لا سيما عند ارادتهن التعفف وإيثار كلمة إن على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتماً للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.
﴿لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾ قيد للإكراه والعرض ما لا يكون له ثبوت ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له قائماً بالجوهر كاللون والطعم وقيل الدنيا عرض حاضر تنبيهاً على أن لا ثبات لها والمعنى لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال من كسبهن وبيع أولادهن.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٤١
قال الكاشفي :(در تبيان آورده كه زانى بودى كه صد شتر ازبراى فرزندى كه ازمزنى بها داشت بدادي).
١٥٠
﴿وَمِن﴾ (هركه) ﴿يُكْرِههُّنَّ﴾ على ما ذكر من البغاء ﴿فَإِنَّ اللَّهَ مِنا بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ﴾ أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول.
﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي : لهن وتوسيط الإكراه بين اسم أن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة.
وفيه دلالة على أن المكرهين محرومون منهما بالكلية وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم باعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية.
وفي "الكواشي" : المغفرة ههنا عدم الإثم لأنها لا إثم عليها إذا أكرهت على الزنى بقتل أو ضرب مفض إلى التلف أو تلف العضو، وأما الرجل فلا يحل له الزنى وإن أكره عليه لأن الفعل من جهته ولا يتأتى إلا بعزيمة منه فيه فكان كالقتل بغير حق لا يبيحه الإكراه بحال انتهى.
وفي الآيتين الكريمتين إشارتان :
الأولى : أن بعض الصلحاء الذين لم يبلغوا مراتب ذوي الهمم العالية في طلب الله ولكن ملكت إيمانهم نفوسهم الأمارة بالسوء فيريدون كتابتها من عذاب الله وعتقها من النار بالتوبة والأعمال الصالحة فكاتبوهم أي توّبوهم إن تفرستم فيهم آثار الصدق وصحة الوفاء على ما عاهدوا الله عليه فإنه لا يلزم التلقين لكل من يطلبه وإنما يلزم لأهل الوفاء وهم إنما يعرفون بالفراسة القوية التي أعطاها الله لأهل اليقين وآتوهم من قوة الولاية والنصح في الدين الذي أعطاكم الله فإن لكل شيء زكاة وزكاة الولاية العلم والمعرفة والنصيحة للمستنصحين والإرشاد للطالبين والتعاون على البر والتقوى والرفق بالمتقين وكما أن المال ينتقض بل يزول ويفنى بمنع الزكاة فكذا الحال يغيب عن صاحبه بمنع الفقراء المسترشدين عن الباب ألا ترى أن السلطنة الظاهرة إنما هي لإقامة المصالح وإعانة المسلمين فكذا السلطنة الباطنة :
وللأرض من كأس الكرام نصيب
والثانية : أن النفوس المتمردة إذا أردن المتحصن بالتوبة بتوفيق الله وكرمه فلا ينبغي إكراهها على الفساد طلباً للشهوات النفسانية.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٤١


الصفحة التالية
Icon