وقال بعض العلماء : تسبيح الحيوان والجماد محمول على ما كان بلسان الحال فإن كل شيء يدل بوجوده وأحواله على وجود صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال مقدس عن كل ما لا يليق بشأنه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٦٣
وقال في "التأويلات" : اعلم أن التسبيح على ثلاثة أوجه تسبيح العقلاء وتسبيح الحيوانات وتسبيح الجمادات.
فتسبيح العقلاء بالنطق والمعاملات.
وتسبيح الحيوانات بلسان الحاجات وصورة الدلالات على صانعها.
وتسبيح الجمادات بالخلق وهو عام في جميعها فإنها مظهر الآيات فأما تسبيح العقلاء فمخصوص بالملك والإنسان فتسبيح الملك غذاؤه يعيش به ولو قطع عنه لهلك وليس موجباً لترقيه لأنه مسبح بالطبع وتسبيح الإنسان تنزيه الحق بالأمر لا بالطبع فموجب لترقيه بأن يفنى فيه أوصاف إنسانيته ويبقيه بوصف سبوحيته فإنه به ينطق عند فناء وجوده.
﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَهُ﴾ يشير إلى أن لكل شيء علماً وشعوراً مناسباً له على صلاته وهي القيام بالعبودية وعلى تسبيحه وهو ثناء الربوبية وذلك ؛ لأن لكل
١٦٤
شيء ملكوتاً هو قائم به وقيام الملكوت بيده تعالى كما قال :﴿فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (يس : ٨٣) وعالم الملكوت هو الحياة المحض والعلم كما قال :﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ﴾ والملكوت هو عالم الأرواح فلكل شيء روح منه بحسب استعداده لقابلية الروح فخلق الإنسان في أحسن تقويم لقابلية الروح الأعظم فلهذا صار كاملهم أفضل المخلوقات وأكرمها فهو يعلم خصوصية صلاته وتسبيحه على قدر حظه من عالم الملكوت بل على قدر حظه من عالم الربوبية وهو متفرد به عما دونه والملك يعلم صلاته وتسبيحه على قدر حظه من عالم الملكوت والحيوانات والجمادات تعلم صلاتها وتسبيحها بملكوتها بلا شعور منها بالصورة.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي : بحقيقته بالكمال وهم يعلمون بحسب استعدادهم انتهى ما في "التأويلات" وهذا لا ينفي نطق الجمادات عند إنطاق الله تعالى وكذا نطق الحيوانات العجم بطريق خرق العادة أو بطريق لا يسمعه ولا يفهمه إلا أهل الكشف والعيان كما سبق أمثلته في سورة الإسراء نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن لا يمضي نفسه إلا بذكر شريف ولا يمر وقته إلا بحال لطيف أنه الفياض الوهاب الجواد.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا﴾ الإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة لينساق غلب في سوق شيء يسير أو غير معتد به ومنه البضاعة المزجاة فإنها يزجيها كل أحد ويدفعها لقلة الاعتداد بها.
ففيه إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لايعتد به ويسمى السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء أي انجراره وهو اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها والمراد ههنا قطع السحاب بقرينة إضافة بين إلى ضميره فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد.
والمعنى قد رأيت رؤية بصرية أن الله يسوق غيماً إلى حيث يريد.
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أي : بين أجزائه بضم بعضها إلى بعض فيجعله شيئاً واحداً بعد أن كان قطعاً.
﴿ثُمَّ يَجْعَلُه رُكَامًا﴾ أي : متراكماً بعضه فوق بعض فإنه إذا اجتمع شيء فوق شيء فهو ركوم مجتمع.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٦٣
قال في "المفردات" يقال : سحاب مركوم أي متراكم والركام ما يلقى بعضه على بعض ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ أي المطر أثر تكاثفه وتراكمه.
قال أبو الليث : الودق المطر كله شديده وهينه.
وفي "المفردات" : الودق قيل ما يكون خلال المطر كأنه غبار وقد يعبر به عن المطر ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلَـالِهِ﴾ حال من الودق لأن الرؤية بصرية والخلال جمع خلل كجبال وجبل وهو فرجة بين الشيئين والمراد ههنا مخارج القطر.
والمعنى حال كون ذلك الودق يخرج من أثناء ذلك السحاب وفتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض.
قال كعب : السحاب غربال المطر ولولاه لأفسد المطر ما يقع عليه ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ﴾ أي من الغمام فإن كل ما علاك سماء وسماء كل شيء أعلاه.
﴿مِن جِبَالٍ﴾ أي : من قطع عظام تشبه الجبال في العظم كائنة.
﴿فِيهَآ﴾ أي : في السماء فإن السماء من المؤنثات السماعية.
﴿مِنا بَرَدٍ﴾ مفعول ينزل على أن من تبعيضية والأوليان لابتداء الغاية على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار والبرد محركة الماء المنعقد، أي ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب كما في "المفردات".
والمعنى ينزل الله مبتدئاً من السماء من جبال فيها بعض برد.
قال بعضهم : إن الله تعالى خلق جبالاً كثيرة في السماء من البرد والثلج ووكل بها ملكاً
١٦٥
من الملائكة فإذا أراد أن يرسل البرد والثلج على قطر من أقطار الأرض يأمره بذلك فثلج هناك ما شاء الله بوزن ومقدار في صحبة كل حبة منها ملك يضعها حيث أمر بوضعها.


الصفحة التالية
Icon