وأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد دعا جميع الناس إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته فأجاب من أجاب وهم أهل السعادة وأولهم الصحابة رضي الله عنهم وأعرض من أعرض وهم أهل الشقاوة وأقدمهم الكفرة والمنافقون المعاصرون له عليه السلام ولما هربوا من باب الله تعالى بترك إطاعة رسوله وأصروا عليه عاقبهم الله تعالى عاجلاً أيضاً حيث قتلوا في الوقائع واصيبوا بما لا يخطر ببالهم فانظر كيف أدركهم الله تعالى فلم يعجزوه كما أدرك الأمم السالفة العاصية نسأل الله تعالى أن يجعلنا في حصين عصمته ويتغمدنا برحمته ويحرسنا بعين عنايته.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} روي : أن غلاماً لاسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كراهته فنزلت والخطاب للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات جميعاً بطريق التغليب.
﴿لِيَسْتَـاْذِنكُمُ﴾ هذه اللام لام الأمر والاستئذان طلب الإذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه.
والمعنى بالفارسية (بايدكه دستورى طلبند از شما).
﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ﴾ من العبيد والجواري.
﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾ أي : الصبيان القاصرون عن درجة البلوغ المعهود والتعبير عن البلوغ بالاحتلام لكونه أظهر دلائله وبلوغ الغلام صيرورته بحال لو جامع أنزل.
قال في "القاموس" : الحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم والاسم الحلم كعنق انتهى.
وفي "المفردات" : ليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل وتسمى البلوغ بالحلم لكونه جديراً صاحبه بالحلم.
﴿مِنكُمُ﴾ أي : من الأحرار ﴿ثَلَـاثَ مَراَّتٍ﴾ ظرف زمان ليستأذن أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات في اليوم والليلة لأنها ساعات غرة وغفلة ثم فسر تلك الأوقات بقوله :﴿مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ﴾ لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث مرات.
﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم﴾ أي ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتخلعونها لأجل القيلولة وهي النوم نصف النهار ﴿مِّنَ الظَّهِيرَةِ﴾ بيان للحين وهي شدة الحر عند انتصاف النهار.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٧٤
قال في "القاموس" : الظهيرة حد انتصاف النهار وإنما ذلك في القيظ والتصريح بمدار الأمر اعنى وضع الثياب في هذا الحين دون الأول والآخر لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها ووقوعها في النهار الذي هو مظنة لكثرة الورود والصدور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين فإن تحقق التجرد واطراده فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به.
﴿وَمِنا بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ﴾ الآخرة ضرورة أنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف وهو كل ثوب تغطيت به ﴿ثَلَـاثُ عَوْرَاتٍ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هن ثلاثة أوقات كائنة ﴿لَكُمْ﴾ يختل فيها التستر عادة والعورة الخلل الذي يرى منه ما يراد ستره وسميت الأوقات المذكورة عورات مع أنها ليست نفس العورات بل هذه أوقات العورات على طريق تسمية الشيء باسم ما يقع فيه مبالغة في كونه محلاً له.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ﴾ أي : على المماليك والصبيان ﴿جُنَاحٌ﴾
١٧٥
إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والإطلاع على العورات ﴿بَعْدَهُنَّ﴾ أي : بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل وقتين منهن فالاستئذان لهؤلاء مشروع فيها لا بعدها ولغيرهم في جميع الأوقات.
﴿طَواَّفُونَ﴾ أي : هم يعني المماليك والأطفال طوافون.
﴿عَلَيْكُمْ﴾ للخدمة طوافاً كثيراً والطواف الدوران حول الشيء ومنه الطائف لمن يدور حول البيت حافاً ومنه استعير الطائف من الجن والخيال والحادثة وغيرها.
﴿بَعْضِكُم﴾ طائف ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ أي : هم يطوفون عليكم للخدمة وأنتم تطوفون للاستخدام ولو كلفهم الاستئذان في كل طوفة أي في هذه الأوقات الثلاثة وغيرها لضاق الأمر عليهم فلذا رخص لكم في ترك الاستئذان فيما وراء هذه الأوقات.
﴿كَذَالِكَ﴾ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده والكاف مقحمة أي مثل ذلك التبيين.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ﴾ الدالة على الأحكام أي ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها لا أنه تعالى بينها بعد أن لم تكن كذلك ﴿وَاللَّهُ عَلِيمُ﴾ مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم.
﴿حَكِيمٌ﴾ في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشاً ومعاداً روي : عن عكرمة أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال : إن الله ستير يحب الستر وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم فربما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيم في حجره ويرى منه ما لا يحبه فأمرهم الله تعالى أن يستأذنوا الثلاث ساعات التي سماها ثم جاء باليسر وبسط الرزق عليهم فاتخذوا الستور والحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم عن الاستئذان الذي أمروا به.


الصفحة التالية
Icon