واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على من سرق من ذي محرم لا تقطع يده أي إذا كان ماله غير محرز كما في "فتح الرحمن" : لأنه تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم فلا يكون ماله محرزا منهم أي إذا لم يكن مقفلاً ومخزوناً ومحفوظاً بوجه من الوجوه المعتادة ولا يلزم منه أن لا تقطع يده إذا سرق من صديقه لأن من أراد سرقة المال من صديقه لا يكون صديقاً له بل خائناً عدواً له في ماله بل في نفسه فإن من تجاسر على السرقة تجاسر على الإهلاك فرب سرقة مؤدية إلى ما فوقها من الذنوب فعلى العاقل أن لا يغفل عن الله وينظر إلى أحوال الأصحاب رضي الله عنهم كيف كانوا إخواناً في الله فوصلوا بسبب ذلك إلى ما وصلوا من الدرجات والقربات وامتازوا بالصدق الأتم والإخلاص الأكمل والنصح الأشمل عمن عداهم فرحمهم الله تعالى ورضي عنهم وألحقنا بهم في نياتهم وأعمالهم.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ في ﴿أَن تَأْكُلُوا﴾ حال كونكم ﴿جَمِيعًا﴾ أي : مجتمعين ﴿أَوْ أَشْتَاتًا﴾ جمع شت بمعنى متفرق على أنه صفة كالحق أو بمعنى تفرق على أنه مصدر وصف به مبالغة.
وأما شتى فجمع شتيت كمرضى ومريض.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٧٩
نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئاً وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كان معه الإبل الحفل
١٨١
أي المملوءة الضرع لبناً فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل فرخص في هذه الآية الأكل وحده لأن الإنسان لا يمكنه أن يطلب في كل مرة أحداً يأكل معه وأما إذا وجد أحداً فلم يشاركه فيما أكله فقد جاء الوعيد في حقه كما قال عليه السلام :"من أكل وذو عينين ينظر إليه ولم يواسه ابتلى بداء لا دواء له".
قال الإمام النسفي رحمه الله : دل قوله تعالى :﴿جَمِيعًا﴾ على جواز التناهد في الأسفار وهو إخراج كل واحد من الرفقة نفقة على قدر نفقة صاحبه أي على السوية.
وقال بعضهم في خلط المال ثم أكل الكل منه الأولى أن يستحل كل منهم غذاء كل أو يتبرعون لأمين ثم يتبرع لهم الأمين.
﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا﴾ أي : من البيوت المذكورة بقرينة المقام، أي للأكل وغيره وهذا شروع في بيان أدب الدخول بعد الترخيص فيه.
﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ أي : فابدؤوا بالتسليم على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية الموجبة لذلك ﴿تَحِيَّةً﴾ ثابتة ﴿مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ أي : بأمره مشروعة من لدنه ويجوز أن يكون صلة للتحية فإنها طلب الحياة التي من عنده تعالى.
والتسليم طلب السلامة من الله للمسلم عليه وانتصابها على المصدرية لأنها بمعنى التسليم أي فسلموا تسليماً.
﴿مُّبَـارَكَةٍ﴾ مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها ﴿طَيِّبَةً﴾ تطيب بها نفس المستمع ﴿كَذَالِكَ﴾ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي : مثل ذلك التبيين.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ﴾ الدالة على الأحكام أي ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها.
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي لكي تفقهوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام والآداب وتعلمون بموجبها وتفوزون بذلك بسعادة الدارين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٧٩
وعن أنس رضي الله عنه قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء كسرته لم كسرته وكنت قائماً أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال :"ألا اعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ فقلت : بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال : متى لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خيرك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين".
يقول الفقير : لاحظ عليه السلام في التسليم الخارجي المعنى اللغوي للتحية فرتب عليه طول العمر لأنه ربما يستجيب الله تعالى دعاء المسلم عليه فيطول عمر المسلم بمعنى وجدان البركة فيه ولاحظ في التسليم الداخلي معنى البركة فرتب عليه كثرة الخير لأنها المطلوبة غالباً بالنسبة إلى البيت ولما كان الوقت وقت الوضوء لصلاة الضحى والله أعلم ألحقها بالتسليم وأوردها بعد الداخلي منه إشارة إلى أن الأفضل إخفاء النوافل بأدائها في البيت ونحوه.


الصفحة التالية
Icon