جمع عصمة يعني أن شدة حاجته لم تعد ولم تغلب على العصمة الأزلية بل أكدت ضرورته زهده في الدنيا الدنية فما زاغ بصر همته في الدنيا وما طغى عين نهمته في العقبى.
١٩٣
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
يقال دعاه إليه أي طلبه إليه وحمله عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :"أوحى الله تعالى إلى عيسى أن صدق محمداً وائمر أمتك من أدركه منهم أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولاه ما خلقت الجنة والنار ولقد خلقت العرش فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن" فمن كانت الدنيا رشحة من فيض نعمه فكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة فاقته كذا في "شرح القصيدة" لابن الشيخ : وفي "المثنوي" :
راهزن هركز كدايي را نزد
كرك كرك مرده را هركز كزد
خضر كشتى را براى آن شكست
تا تواند كشتى از فجار رست
ون شكسته مى رهدا شكسته شو
امن در فقرست اندر فقر رو
آنكهى كوداشت از كان نقد ند
كشت اره اره از زخم كلند
تيغ بهراوست كورا كردنيست
سايه فاكندست بروى رحم نيست
يعني فليلازم العبد التواضع والفقر.
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ﴾ أي القيامة والحشر والنشر.
والساعة جزء من أجزاء الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيهاً بذلك لسرعة حسابه كما قال :﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ﴾ (الأنعام : ٦٢) أو لما نبه عليه قوله تعالى :﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا﴾ (الأحقاف : ٣٥) كما في "المفردات" وهو إضراب عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى للتخلص إلى بيان مالهم في الأخرة بسببها من فنون العذاب ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ هيأنا وأصله أعددنا ﴿لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ﴾ وضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع ﴿سَعِيرًا﴾ ناراً عظيمة شديدة الاشتعال.
قال بعض أهل الحقائق سعير الآخرة إنما سعرت من سعير الدنيا وهي حرص العبد على الدنيا وملاذها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿إِذَا رَأَتْهُم﴾ صفة للسعير أي إذا كانت تلك السعير بمرأى منهم وقابلتهم بحيث صاروا بإزائها كقولهم : داري تنظر دارك أي تقابلها فأطلق الملزوم وهو الرؤية وأريد اللازم وهو كون الشيء بحيث يرى والانتقال من الملزوم إلى اللازم مجاز.
﴿مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه قيل : من المشرق إلى المغرب وهي خمسائة عام.
وفيه إشارة بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهم خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة.
﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ أي : صوت تغيظ على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ أي الغضبان إذا غلى صدره من الغيظ فعند ذلك يهمهم والهمهمة ترديد الصوت في الصدر.
قال ابن الشيخ : يقال : أما رأيت غضب الملك إذا رأى ما يدل عليه فكذا ههنا ليس المسموع التغيظ الذي هو أشد الغضب بل ما يدل عليه من الصوت.
وفي "المفردات" : التغيظ إظهار الغيظ وهو أشد الغضب وقد يكون ذلك مع صوت مسموع والغضب هو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
﴿وَزَفِيرًا﴾ وهو صوت يسمع من جوفه وأصله ترديد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه.
وقال عبيد بن عمير : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا خرّ لوجهه ترعد فرائصهم حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي.
قال أهل السنة : البنية ليست شرطاً
١٩٤
في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله فيها الحياة والعقل والرؤية والنطق.
يقول الفقير : وهو الحق كما يدل عليه قوله تعالى :﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ﴾ (العنكبوت : ٦٤) فلا احتياج إلى تأويل أمثال هذا المقام.
﴿وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا﴾ أي في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالاً منه والضمير عائد إلى السعير.
﴿ضَيِّقًا﴾ صفة لمكاناً مفيدة لزيادة شدة حال الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض.


الصفحة التالية
Icon