واعلم أنه تضيق حهنم عليهم كما تضيق حديدة الرمح على الرمح أو تكون لهم كحال الوتد في الحائط فيضم العذاب وهو الضيق الشديد إلى العذاب وذلك لتضيق قلوبهم في الدنيا حتى لم تسع فيها الإيمان.
﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ أي حال كونهم قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم مشدودة إليها بسلسلة أو يقرنون مع شياطينهم سلسلة في سلسلة : يعني (هريك را بقرين أو ازجن بسبسبة آتشين بهم بازبسته) يقال : قرنت البعير جمعت بينهما وقرنته بالتشديد على التكثير.
﴿دَعَوْا﴾ (بخوانند برخود) ﴿هُنَالِكَ﴾ أي في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة.
﴿ثُبُورًا﴾ هو الويل والهلاك (واين كلمه كسي كويدكه آرزومند هلاك باشد) أي يتمنون هلاكاً وينادون فيقولون : يا ثبوراء يا ويلاه يا هلاكاه تعال فهذا أوانك وفي الحديث :"أول من يكسى يوم القيامة إبليس حلة من النار بعضها على حاجبيه فيسحبها من خلفه وذريته خلفه وهو يقول واثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي ياثبوراه وينادون يا ثبورهم" فيقول الله تعالى أو فيقال لهم على ألسنة الملائكة تنبيهاً على خلود عذابهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا﴾ أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ أي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا يحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعون ثبوراً واحداً في حد ذاته وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحداً وادعوا أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آنٍ.
﴿قُلْ أَذَالِكَ﴾ العذاب ﴿خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ أي : وعدها المتقون أي المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط فالمؤمن متق وإن كان عاصياً وجنة الخلد هي الدار التي لا ينقطع نعيمها ولا ينقل عنها أهلها فإن الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح وإلا فالجنة اسم للدار المخلدة ويجوز أن تكون الجنة اسماً لا يدل على البستان الجامع لوجوه البهجة ولا يدخل الخلود في مفهومها فاضيفت إليه للدلالة على خلودها.
فإن قيل : كيق يتصور الشك في أنه أيهما خير حتى يحسن الاستفهام والترديد وهل يجوز للعاقل أن يقول : السكر أحلى أم الصبر وهو دواء مرّ يقال ذلك في معرض التقريع والتهكم والتحسير على ما فات.
وفي "الوسيط" هذا التنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين لا على أن في السعير خيراً.
وقال بعضهم : هذا على المجاز وإن لم يكن في النار خير والعرب تقول العافية خير من البلاء وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم.
﴿كَانَتْ﴾ تلك الجنة ﴿لَهُمُ﴾ في علم الله تعالى ﴿جَزَآءً﴾ على أعمالهم بمقتضى الكرم لا بالاستحقاق والجزاء الغنى والكفاية فالجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً
١٩٥
فخير وإن شراً فشر.
والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
﴿وَمَصِيرًا﴾ مرجعاً يرجعون إليه وينقلبون.
والفرق بين المصير والمرجع أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع.
﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ أي ما يشاؤونه من أنواع النعيم واللذات مما يليق بمرتبتهم فإنهم بحسب نشأتهم لا يريدون درجات من فوقهم فلا يلزم تساوي مراتب أهل الجنان في كل شيء.
ومن هذا يعلم فساد ما قيل في "شرح الأشباه" بجواز اللواطة في الجنة لجواز أن يريدها أهل الجنة ويشتهيها وذلك لأن اللواطة من الخبائث التي ما تعلقت الحكمة بتحليلها في عصر من الأعصار كالزنى فكيف يكون ما يخالف الحكمة مراداً ومشتهى في الجنة فالقول بجوازها ليس إلا من الخباثة.
والحاصل أن عموم الآية إنما هو بالنسبة إلى المتعارف ولذا قال بعضهم : في الآية دليل على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة ولما لم تكن اللواطة مرادة في الدنيا للطيبين فكذا في الآخرة ﴿خَـالِدِينَ﴾ فيها حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ ﴿كَانَ﴾ المذكور من الدخول والخلود وما يشاؤون.
﴿عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْـاُولا﴾ أي موعوداً حقيقاً بأن يسأل ويطلب وما في على من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٢