والمميز يوم القيامة هو الله تعالى فإنه يقول :﴿وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يس : ٥٩) ولما استكبر الكفار واستعلوا حتى لم يخروا لسجدة الله تعالى حشرهم الله تعالى على وجوههم ولما تواضع المؤمنون رفعهم الله على النجائب فمن هرب عن المخالفة وأقبل إلى الموافقة نجا ومن عكس هلك وأين يهرب العاصي والله تعالى مدركه.
قال أحمد بن أبي الجواري : كنت يوماً جالساً على غرفة فإذا جارية صغيرة تقرع الباب فقلت : من بالباب؟ فقالت : جارية تسترشد الطريق فقلت : طريق النجاة أم طريق الهرب فقالت : يا بطال اسكت فهل للهرب طريق وأينما يهرب العبد فهو في قبضة مولاه فعلى العاقل أن يهرب في الدنيا إلى خير مكان حتى يتخلص في الآخرة من شر مكان وخير مكان في الدنيا هو المساجد ومجالس العلوم النافعة فإن فيها النفحات الإلهية.
قال المولى الجامي قدس سره :
مانداريم مشامس كه توانيم شنيد
ورنه هردم رسداز كلشن وصلت نفحات
نسأل الله نفحات روضات التوحيد وروائح حدائق التفريد.
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ﴾ اللام جواب لقسم محذوف أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناه عليه بعد إغراق فرعون وقومه.
وفي "الإرشاد" : والتعرض في مطلع القصة لإيتاء الكتاب مع أنه كان بعد مهلك القوم ولم يكن له مدخل في هلاكهم كسائر الآيات للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال ونيله نهاية الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملك فرعون وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام ﴿وَجَعَلْنَا مَعَهُ﴾ الظرف متعلق بجعلنا.
﴿أَخَاهُ﴾ مفعول أول له ﴿هَـارُونَ﴾ بدل من أخاه اسم أعجمي ولم يرد في شيء من كلام العرب.
﴿وَزِيرًا﴾ مفعول ثان أي معيناً يوازره ويعاونه في الدعوة وإعلاء الكلمة فإن الموازرة المعاونة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٠٩
وفي "القاموس" : الوزر بالكسر الثقل والحمل الثقيل والوزير حبأ الملك الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه وحاله الوزارة بالكسر ويفتح والجمع وزراء والحبأ محركة جليس الملك
٢١٠
وخاصته.
وقال بعضهم : الوزير الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه من الوزر بالتحريك وهو ما يلتجأ إليه ويعتصم به من الجبل ومنه قوله تعالى :﴿كَلا لا وَزَرَ﴾ (القيامة : ١١) أي : لا ملجأ يوم القيامة والوزر بالكسر الثقل تشبيهاً بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل لقوله :﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ﴾ (النحل : ٢٥) وقوله :﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ (العنكبوت : ١٣) والوزير بالفارسية (يار ومدد كار وكار ساز).
فإن قلت : كون هارون وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً في النبوة لأنه إذا صار شريكاً له خرج عن كونه وزيراً.
قلت : لا ينافي ذلك مشاركته في النبوة لأن المتشاركين في الأمر متوازران عليه.
﴿فَقُلْنَا﴾ لهما حينئذٍ ﴿اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا﴾ هم فرعون وقومه أي القبط والآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يد موسى عليه السلام ولم يوصف القوم عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بياناً لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير ويقال : بآياتنا التكوينية أي بالعلامات التي خلق الله في الدنيا ويقال بالرسل وبكتب الأنبياء الذين قبل موسى كما في قوله :﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾ فالباء على كل تقدير متعلقة بكذبوا لا باذهبا وأن كان الذهاب إليهم بالآيات كما في قوله في الشعراء :﴿قَالَ كَلا﴾ (الشعراء : ١٥) وأما التكذيب فتارة يتعلق بالآيات كما في قوله في الأعراف :﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ أي بالآيات وقوله في طه ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا﴾ (طه : ٥٦) وتارة بموسى وهارون كما في قوله في المؤمنين ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾ (المؤمنون : ٤٨) ﴿فَدَمَّرْنَـاهُمْ تَدْمِيرًا﴾ التدمير إدخال الهلاك على الشيء والدمار الاستئصال بالهلاك والدمور الدخول بالمكروه وتقدير الكلام فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوهما تكذيباً مستمراً فأهلكناهم أثر ذلك التكذيب المستمر إهلاكاً عجيباً هائلاً لا يدرك كنهه : وبالفارسية :(س هلاك كرديم ايشانرا هلاك كردنى باغراق درياي قلزم) فاقتصر على حاشيتي القصة أي أولها وآخرها اكتفاء بما هو المقصود منها وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل والتدمير بالتكذيب والفاء للتعقيب باعتبار نهاية التكذيب أي باعتبار استمراره وإلا فالتدمير متأخر عن التكذيب بأزمنة متطاولة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٠٩


الصفحة التالية
Icon