قلت : لا اعتبار لستر الظلمة فإن ستر العورة باللباس ونحوه لحق الصلاة وهو باق في الظلمة والضوء.
﴿وَالنَّوْمَ سُبَاتًا﴾ النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد والسبت قطع العمل ويوم سبتهم يوم قطعهم للعمل وسمي يوم السبت لذلك، أو لانقطاع الأيام عنده لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام فقطع عمله يوم السبت كما في "المفردات".
والمعنى وجعل النوم الذي يقع في الليل غالباً راحة للأبدان بقطع المشاغل والأعمال المختصة بحال اليقظة أو جعله موتاً فعبر عن القطع بالسبات الذي هو الموت لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع الحياة وعليه قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ﴾ (الأنعام : ٦٠) فالموت والنوم من جنس واحد خلا أن الموت هو الانقطاع الكلي أي انقطاع ضوء الروح عن ظاهر البدن وباطنه والنوم هو الانقطاع الناقص أي انقطاع ضوء الروح عن ظاهره دون باطنه والمسبوت الميت لانقطاع الحياة عنه والمريض المغشى عليه لزوال عقله وتمييزه وعليه قولهم : مثل المبطون والمفلوج والمسبوت ينبغي أن لا يبادر إلى دفنهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم.
﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ النهار الوقت الذي ينتشر فيه الضوء وهو في الشرع ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس وفي الأصل ما بين طلوع الشمس إلى غروبها والنشور إما من الانتشار أي وجعل النهار ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس لطلب المعاش وابتغاء الرزق كما قال :﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ (القصص : ٧٣) أو من نشر الميت إذا عاد حياً أي وجعل النهار زمام بعث من ذلك السبات والنوم كبعث الموتى على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي نفس البعث على الطريق المبالغة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢٢
وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة انموذج للموت والنشور.
وعن لقمان عليه السلام : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر وفي "المثنوي".
نوم ما ون شد اخ الموت أي فلان
زين برادر آن برادرا بدان
وفي الآية رخصة للمنام بقدر دفع الضرورة وهو فتور البدن.
قال بعض الكبار : النوم راحة للبدن والمجاهدات إتعاب البدن فيتضادان وحقيقة النوم سد حواس الظاهر لفتح حواس القلب والحكمة في النوم أن الروح القدسي أو اللطيفة الربانية أو النفس الناطقة غريبة جداً في هذا الجسم السفلي مشغولة بإصلاحه وجلب منافعه ودفع مضاره محبوسة فيه ما دام المرء يقظان فإذا نام ذهب إلى مكانه الأصلي ومعدنه الذاتي فيستريح بواسطة لقاء الأوراح ومعرفة المعاني والغيوب مما يتلقى في حين دهابه إلى عالم الملكوت من المعاني التي يراها بالأمثلة في عالم الشهادة وهو السر في تعبير الرؤيا فإذا هجر المجاهد النوم والاستراحة ذابت
٢٢٢
عليه أجزاء الأركان الأربعة من الترابية والمائية والنارية والهوائية فيعرى القلب حينئذٍ عن الحجب فينظر إلى عالم الملكوت بعين قلبه فيشتاق إلى ربه وربما يرى المقصود في نومه كما حكي عن شاه شجاع أنه لم ينم ثلاثين سنة فاتفق أنه نام ليلة فرأى الحق سبحانه في منامه ثم بعد ذلك كان يأخذ الوسادة معه ويضطجع حيث كان فسئل عن ذلك فأنشأ يقول :
رأيت سرور قلبي في منامي
فأحببت التنعس والمناما
فهذا حال أهل النهاية فإنهم حيث كانت بصيرتهم يقظانة كان منامهم في حكم اليقظة ولذا قال بعضهم :
مشو بمرك زامداد أهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
وأما حال غيرهم فكما قيل :
سر آنكه ببالين نهد هو شمند
كه خوابش بقهر آورد در كمند
وعن ذي النون المصري رحمه الله : ثلاثة من أعلام العبادة حب الليل للسهر في الطاعة والخلوة بالصلاة وكراهة النهار لرؤية الناس والغفلة لرؤية الناس والغفلة عن الصلاة والمبادرة بالأعمال مخافة الفتنة.
قال بعضهم : جعل الليل وقتاً لسكون قوم ووقتاً لانزعاج آخرين فأرباب الغفلة يسكنون في ليلهم والمحبون يسهرون فإن كانوا في روح الوصال فلا يأخذهم النوم لكمال أنسهم وإن كانوا في ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم فالسهر للأحباب صفة إما لكمال السرور أو لهجوم الغموم ثم الأدب عند الانتباه أن يذهب بباطنه إلى الله تعالى ويصرف فكره إلى أمر الله قبل أن يجول الفكر في شيء سوى الله ويشغل اللسان بالذكر فالصادق كالطفل الكلف بالشيء إذا نام ينام على محبة الشيء وإذا انتبه يطلب ذلك الذي كان كلفاً به وعلى هذا الكلف والشغل يكون الموت والقيام إلى الحشر فلينظر وليعتبر عند انتباهه من النوم ما همه فإنه يكون هكذا عند القيام من القبر إن كان همه الله وإلا فهمه غير الله.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢٢