فالمعنى مكناهم من أن يشربوه ويسقوا منه أنعامهم ﴿مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـامًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا﴾ متعلق بقوله : نسقيه أي نسقي ذلك الماء بعض خلقنا من الأنعام والأناسي وانتصابها على البدل من محل الجار والمجرور في قوله مما خلقنا.
٢٢٤
ويجوز أن يكون أنعاماً وأناسي مفعول نسقيه.
ومما خلقنا متعلق بمحذوف على أنه حال من أنعاماً والأنعام جمع نعم وهي المال الراعية وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢٢
وقال في "المغرب" : الأنعام الأزواج الثمانية في قوله :﴿وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ (الأنعام : ١٤٤) ﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ (الأنعام : ١٤٣) وأناسي جمع إنسان عند سيبويه على أن أصله أناسين فأبدلت النون ياء وأدغم فيها الياء التي قبلها.
وقال الفراء والمبرد والزجاج : إنه جمع أنسي وفيه نظر لأن فعالى إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كراسي في جمع كرسي فلو أريد بكرسي النسب لم يجز جمعه على كراسيّ ويبعد أن يقال أن الياء في أنسي ليست للنسب وكان حقه أن يجمع على أناسية نحو مهالية في جمع المهلى كذا في "حواشي ابن الشيخ".
وقال الراغب : الأنسي منسوب إلى الأنس يقال ذلك لمن كثر أنسه ولكل ما يؤنس به وجمع الأنسيّ أناسي وقال في الكرسي أنه في الأصل منسوب إلى الكرس أي التلبد ومنه الكراسة للمتلبد من الأوراق انتهى.
قوله كثيراً صفة أناسي لأنه بمعنى بشر والمراد بهم أهل البوادي الذين يعيشون بالمطر ولذا نكر الأنعام والأناسي.
يعني أن التنكير للأفراد النوعي وتخصيصهم بالذكر لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فلا يحتاجون إلى سقيا السماء وسائر الحيوانات من الوحوش والطيور تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالباً يقال : أعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه وخص الأنعام بالذكر لأنها قنية للإنسان أي يقتنيها ويتخذها لنفسه لا للتجارة وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها فلذا قدم سقيها على سقيهم كما قدم على الأنعام إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فانظر كيف رتب ذكر ما هو رزق الإنسان ورزق رزقه فإن الأنعام رزق الإنسان والنبات رزق الأنعام والمطر رزق النبات فقدم ذكر المطر ورتب عليه ذكر حياة الأرض بالنبات ورتب عليه ذكر الأنعام.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٢٢
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَـاهُ﴾ أي : وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجليلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي : بين الناس من المتقدمين والمتأخرين.
﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ أي : ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره حق القيام وأصله يتذكروا والتذكر التفكر ﴿فَأَبَى﴾ الإباء شدة الامتناع ورجل أبي ممتنع من تحمل الضيم وهو متأول بالنفي ولذا صح الاستثناء، أي لم يفعل أو لم يرد أو لم يرض.
﴿أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ ممن سلف وخلف ﴿إِلا كُفُورًا﴾ إلا كفران النعمة وقلة المبالاة بشأنها فإن حقها أن يتفكر فيها ويستدل بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما جميعاً كما في "المفردات" وأكثر أهل التفسير على أن ضمير صرفناه راجع إلى نفس الماء الطهور الذي هو المطر.
فالمعنى ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَـاهُ﴾ أي فرقنا المطر بينهم بإنزاله في بعض البلاد والأمكنة دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو على صفة دون أخرى بجعله تارة وابلاً وهو المطر الشديد وأخرى طلاً وهو المطر الضعيف ومرة ديمة وهو المطر الذي يدوم أياماً فأبى أكثر الناس إلا جحوداً للنعمة وكفراً
٢٢٥


الصفحة التالية
Icon