وقال بعضهم في صفة عباد الرحمن : العبادة حليتهم والفقر كرامتهم وطاعة الله حلاوتهم وحب الله لذتهم وإلى الله حاجتهم والتقوى زادهم والهدى مركبهم والقرآن حديثهم والذكر زينتهم والقناعة مالهم والعبادة كسبهم والشيطان عدوهم والحق حارسهم والنهار عبرتهم والليل فكرتهم والحياة مرحلتهم والموت منزلهم والقبر حصنهم والفرودس مسكنهم والنظر إلى رب العالمين منيتهم.
اعلم أن عباد الله كثير فمنهم عبد الرحمن ومنهم عبد الرزاق ومنهم عبد الوهاب إلى غير ذلك ولكن لا يكون المرء بمجرد الاسم عبداً حقيقة لا عبد الله ولا نحوه وذلك لأن عبد الله هو الذي تجلى بجميع أسمائه تعالى فلا يكون في عباده أرفع مقاماً وأعلى شأناً منه لتحققه بالاسم الأعظم واتصافه بجميع صفاته ولذا خص نبينا عليه السلام بهذه الاسم في قوله :﴿وَأَنَّه لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ (الجن : ١٩) فلم يكن هذا الاسم بالحقيقة إلا له وللأقطاب من ورثته بتبعيته.
وعبد الرحمن
٢٤١
هو مظهر الاسم الرحمن فهو رحمة العالمين جميعها بحيث لا يخرج أحد من رحمته بحسب قابليته واستعداده.
وعبد الرحيم هو مظهر الاسم الرحيم وهو يختص رحمته بمن اتقى وأصلح ورضي الله عنه وينتقم ممن غضب الله عليه.
وعبد الرزاق هو الذي وسع الله له رزقه فيؤثر به على العباد.
وعبد الوهاب هو الذي تجلى له الحق باسم الجود فيهب ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي بلا عوض ولا غرض ويمد أهل عنايته تعالى بالإمداد جعلنا الله وإياكم من المتحققين بأسمائه الحسنى إنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى.
﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ﴾ عطف على الموصوف الأول والبيتوتة خلاف الظلول وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ولذلك يقال : بات فلان قلقاً أي مضطرباً.
والمعنى (بالفارسية عباد الرحمن آنا نندكه شب بروزمى آرند).
﴿لِرَبِّهِمْ﴾ لالحظ أنفسهم وهو متعلق بما بعده والتقديم للتخصيص مع مراعاة الفاصلة.
﴿سُجَّدًا﴾ جمع ساجد أي حال كونهم ساجدين على وجوههم.
﴿وَقِيَـامًا﴾ جمع قائم مثل نيام ونائم أو مصدر أجري مجراه أي قائمين على أقدامهم وتقديم السجود على القيام لرعاية الفواصل وليعلم أن القيام في الصلاة مقدم مع أن السجدة أحق بالتقديم لما ورد :"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" والكفرة عنها يستكبرون حتى قال بعضهم منهم لا أفعلها لأني لا أحب أن تعلو رأسي استي.
والمعنى يكونون ساجدين لربهم وقائمين أي يحبون الليل كلاً أو بعضاً بالصلاة كما قال تعالى في حق المتقين ﴿كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ (الذاريات : ١٧) وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أشق وأبعد من الرياء وهو بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم ووصف ليلهم بعد وصف نهارهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٣٦
وقد اشتهر بقيام الليل كله وصلاة الغداة بوضوء العشاء الأخيرة سعيد بن المسيب وفضيل ابن عياض وأبو سليمان الداراني وحبيب العجمي ومالك بن دينار ورابعة العدوية وغيرهم.
قال في "التأويلات النجمية" : يبيتون لربهم ساجدين ويصبحون واجدين فوجود صباحهم ثمرات سجود رواحهم كما في الخبر :"من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" أي : عظم ماء وجهه عند الله وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود محسن وباطن بالوجود مزين.
وكانت حفصة بنت سيرين أخت محمد بن سيرين تقرأ كل ليلة نصف القرآن تقوم به في الصلاة وكانت تقوم في مصلاها بالليل فربما طفىء المصباح فيضيء لها البيت حتى تصبح وكانت من عابدات أهل البصرة وكان أخوها ابن سيرين إذا أشكل عليه شيء من القرآن قال : اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ وكانت تقول يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
وكانت رابعة العدوية تصلي الليل كله فإذا قرب الفجر نامت نومة خفيفة ثم تقوم وتقول : يا نفس كم تنامين وكم تقومين يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا صبيحة يوم النشور فكان هذا دأبها حتى ماتت، وفي الخبر :"قم من الليل ولو قدر حلب شاة" ومن حرم قيام الليل كسلاً وفتوراً في العزيمة أو تهاوناً بقلة الاعتداد بذلك أو اغتراراً بحاله فليبك عليه فقد قطع عليه طريق كثير من الخير.
والذي يخل بقيام الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا وكثرة أشغال الدنيا وإتعاب الجوارح والامتلاء من الطعام وكثرة الحديث واللهو واللغط وإهمال القيلولة والموفق من يغتنم وقته ويعرف داءه ودواءه ولا يهمل فيهمل.
يقول الفقير قواه الله القدير على فعل
٢٤٢
الخير الكثير.
إن قلت : ما تقول في قوله عليه السلام :"من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة" إلخ فإنه يرفع مؤونة قيام الليل.
قلت : هذا ترغيب في الجماعة وبيان للرخصة وتأثير النية فإن من نوى وقت العشاء أن يقيم الفجر بجماعة كان كمن انتظرها في المسجد فرب همة عالية تسبق الأقدام ولكن العمل مع النية أفضل من النية المجردة والعزيمة فوق الرخصة.


الصفحة التالية
Icon