﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا﴾ نفق الشيء إذا مضى ونفد إما بالبيع نحو نفق المبيع نفاقاً وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقاً وإما بالفناء نحو نفقت الدراهم وأنفقتها.
﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾ لم يجاوزوا حد الكرم ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ ولم يضيّقوا تضييق الشحيح فإن القتر والإقتار والتقتير هو التضييق الذي هو ضد الإسراف والإسراف مجاوزة الحد في النفقة.
﴿وَكَانَ﴾ الإنفاق المدلول عليه بقوله أنفقوا ﴿بَيْنَ ذَالِكَ﴾ أي بين ما ذكر من الإسراف والتقتير وهو خبر كان، وقوله :﴿قَوَامًا﴾ خبر بعد خبر أو هو الخبر وبين ذلك ظرف لغو لكان على رأي من يرى أعمالها في الظرف.
والمعنى وسطاً عدلاً سمي به لاستقامة الطرفين واعتدالهما بحيث لا ترجح لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه لكونه وسطاً بينهما كمركز الدائرة فإنه يكون نسبة جميع الدائرة إليه على السواء ونظير القوام
٢٤٤
السواء فإنه سمي به لاستواء الطرفين فالآية نظير قوله تعالى في سورة الإسراء ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٣
وسط را مكن هركز از كف رها
كه خير الأمور ست أوساطها
وتحقيق المقام الإنفاق ضربان محمود ومذموم.
فالمحمود منه ما يكسب صاحبه العدالة وهو بذل ما أوجبت الشريعة بذله كالصدقة المفروضة والإنفاق على العيال ولذا قال الحسن : ما أنفق الرجل على أهله في غير إسراف ولا فساد ولا إقتار فهو في سبيل الله ومنه ما يكسب صاحبه أجراً وهو الإنفاق على من ألزمت الشريعة إنفاقه عليه ومنه ما يكسب له الحرية وهو بذل ما ندبت الشريعة إلى بذله فهذا يكتسب من الناس شكراً ومن ولي النعمة أجراً.
والمذموم ضربان إفراط وهو التبذير والإسراف وتفريط وهو الإمساك والتقتير وكلاهما يراعى فيه الكمية والكيفية فالتبذير من جهة الكمية أن يعطي أكثر ما يحتمله حاله ومن حيث الكيفية أن يضعه في غير موضعه والاعتبار فيه بالكيفية أكثر من الكمية فرب منفق درهماً من ألوف وهو في إنفاقه مسرف وببذله ظالم مفسد كمن أعطى فاجرة درهماً أو اشترى خمراً ورب منفق ألوفاً لا يملك غيرها هو فيه مقتصد وبذله محمود كما روي في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث أنفق جميع ماله في غزوة تبوك ولما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر" قال : الله ورسوله.
وقد قيل لحكيم : متى يكون بذلك القليل إسرافاً والكثير اقتصاداً؟ قال : إذا كان بذل القليل في باطل وبذل الكثير في حق ومن هذا الباب ما قال مجاهد في الآية : لو كان لرجل مثل أبي قبيس ذهباً فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً والتقتير من جهة الكمية أن ينفق دون ما يحتمله حاله ومن جهة الكيفية أن يمنع من حيث يجب وينفق حيث لا يجب والتبذير عند الناس أحمد لأنه جود لكنه أكثر مما يجب والتقتير بخل والجود على كل حال أحمد من البخل لأن رجوع المبذر إلى السخاء سهل وارتقاء البخيل إليه صعب وأن المبذر قد ينفع غيره وإن أضر بنفسه والمقتر لا ينفع نفسه ولا غيره على أن التبذير في الحقيقة هو من وجه اقبح إذ لا إسراف إلا وفي جنبه حق يضيع ولأن التبذير يؤدي صاحبه إلى أن يظلم غيره ولذا قيل : الشحيح أعذر من الظالم ولأنه جهل بقدر المال الذي هو سبب استبقاء النفس والجهل رأس كل شر والمتلاف ظالم من وجهين لأخذه من غير موضعه ووضعه في غير موضعه.
قال يزيد بن حبيب في هذه الآية أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثياباً للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم عن الحر والقرّ وفي الحديث :"ليس لابن آدم حق فيما سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء" يعني : كسر الخبز واحدتها جرفة بالكسر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٣
وقال عمر رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله.
اكره باشد مرادف خورى
زدوران بسى نامرادى برى
دريغ آدمي زادة ر محل
كه باشد و انعام بل هم أضل
٢٤٥
قال الحافظ :
خواب وخورت زمرتبة خويش دور كرد
آنكه رسى بخويش كه بي خواب وخورشوى
ثم إن الإسراف ليس متعلقاً بالمال بل بكل شيء وضع في غير موضعه اللائق به ألا ترى أن الله تعالى وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث فقال :﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِا بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ (الأعراف : ٨١) ووصف فرعون بقوله :﴿إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الدخان : ٣١) فالتكبر لغير المتكبر اسراف مذموم وللمتكبر اقتصاد محمود وعلى هذا فقس.


الصفحة التالية
Icon