وفي الآية إشارة إلى أهل الله الباذلين عليه الوجود.
﴿إِذَآ أَنفَقُوا﴾ وجودهم في ذات الله وصفاته ﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾ أي لم يبالغوا في المجاهدة والرياضة حتى يهلكوا أنفسهم بالكلية كما قال :﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة : ١٩٥) ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ في بذل الوجود بأن لا يجاهدوا أنفسهم في ترك هواها وشهواتها كما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال :"أنذر قومك من أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عني" ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا﴾ بحيث لا يهلك نفسه بفرط المجاهدة ولا يفسد قلبه بتركها وتتبع الشهوات كما في "التأويلات النجمية".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٣
﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ﴾ لا يعبدون ﴿مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ﴾ كالصنم أي لا يجعلونه شريكاً له تعالى.
يقال : الشرك ثلاثة : أولها أن يعبد غيره تعالى، والثاني : أن يطيع مخلوقاً بما يأمره من المعصية، والثالث : أن يعمل لغير وجه الله فالأول كفر والآخران معصية.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني لا يرفعون حوائجهم إلى الأغيار ولا يتوهمون منهم المسار والمضار وأيضاً لا يشربون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يطلبون مع الله مطلوباً ولا يحبون معه محبوباً بل يطلبون الله من الله و يحبونه به.
قال الصائب.
غير حق را مى دهى ره در حريم دل را
ميكشى بر صفحة هستى خط باطل را
﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ﴾ أي حرمها بمعنى حرم قتلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم والمراد نفس المؤمن والمعاهد ﴿إِلا بِالْحَقِّ﴾ المبيح لقتلها أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كما إذا قتل أحداً فيقتص به أو زنى وهو محصن فيرجم أو ارتد أو سعى في الأرض بالفساد فيقتل ﴿وَلا يَزْنُونَ﴾ الزنى وطء المرأة من غير عقد شرعي.
واعلم أن الله تعالى نفى عن خواص العباد أمهات المعاصي من عبادة الغير وقتل النفس المحرمة والزنى بعدما أثبت لهم أصول الطاعات من التواضع ومقابلة القبيح بالجميل وإحياء الليل والدعاء والإنفاق العدل وذلك إظهار لكمال إيمانهم فإنه إنما يكمل بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وإشعاراً بأن الأجر المذكور فيما بعد موعود للجامع بين ذلك وتعريضاً للكفرة بأضداده أي وعباد الرحمن الذين لا يفعلون شيئاً من هذه الكبائر التي جمعتهن الكفرة حيث كانوا مع إشراكهم به سبحانه مداومين على قتل النفوس المحرمة التي من جملتها الموؤدة مكبين على الزنى إذ كان عندهم مباحاً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٦
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الذنب أعظم؟ قال :"أن تجعلنداً وهو خلقك" قال : قلت : ثم أي قال :"أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال : ثم أي "قال أن تزني بحليلة جارك".
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَلا يَزْنُونَ﴾ أي لا يتصرفون
٢٤٦
في عجوز الدنيا بشهوة نفسانية حيوانية بل يكون تصرفهم فيهاوفي الله وبالله أي بخلاف حال العامة ﴿وَمَن﴾ (هركه) ﴿يَفْعَلْ ذَالِكَ﴾ شيئاً مما ذكر من الأفعال كما هو دأب الكفرة ﴿يَلْقَ أَثَامًا﴾ هو جزاء الإثم والعقوبة كالوبال والنكال وزناً ومعنى.
وبالفارسية (به بيند جزاى بزه كارىء خود) تقول أثم الرجل بالكسر أذنب وأثمه جازاه.
قال في "القاموس" : هو كسحاب واد في جهنم والعقوبة وفي الحديث :"الغي والأثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار".
﴿يُضَـاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ (المضاعفة : افزون كردن يعني يك دو كردن) كما قال الراغب : الضعف تركب قدرين متساويين يقال : أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعداً والجملة بدل من يلق لاتحادهما في المعنى أي يتزايد عذابه وقتاً بعد وقت وذلك لانضمام المعاصي إلى الكفر.
وفي "التأويلات النجمية" : أي يكون معذباً بعذابين عذاب دركات النيران وعذاب فرجات درجات الجنان وقربات الرحمن ﴿وَيَخْلُدْ﴾ (وجاويد ماند) ﴿فِيهِ﴾ أي : في ذلك العذاب حال كونه ﴿مُهَانًا﴾ ذليلاً محتقراً جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني لا يغاث.
وبالفارسية (خوار وبى اعتبار) قرأ ابن كثير وحفص فيهي مهاناً بإشباع كسرة الهاء وجعلها بالياء في الوصل وذلك للتنبيه على العذاب المضاعف ليحصل التيقظ والامتتاع عن سببه.


الصفحة التالية
Icon