جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٦
﴿وَمَن تَابَ﴾ أي رجع عن المعاصي مطلقاً بتركها بالكلية والندم عليها ﴿وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ يتدارك به ما فرط منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعات ﴿فَإِنَّهُ﴾ بما فعل ﴿يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ﴾ يرجع إليه تعالى بعد الموت.
قال الراغب : ذكر إلى يقتضى الإنابة.
﴿مَتَابًا﴾ أي : متاباً عظيم الشأن مرضياً عنده ماحياً للعقاب محصلاً للثواب فلا يتحد الشرط والجزاء لأن في الجزاء معنى زائداً على ما في الشرط فإن الشرط هو التوبة بمعنى الرجوع عن المعاصي والجزاء هو الرجوع إلى الله
٢٤٨
رجوعاً مرضياً.
قال الراغب : متاباً أي التوبة التامة وهو الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل اهـ وهذا تعميم بعد التخصيص لأن متعلق التوبة في الآية الأولى الشرك والقتل والزنى فقط وههنا مطلق المعاصي.
والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الإعادة فمتى اجتمع هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة.
قال المولى الجامي :
باخلق لاف توبه ودل بركنه مصر
كس ى نمى بردكه بدين كونه كمرهم
قال ابن عطاء : التوبة الرجوع من كل خلق مذموم والدخول في كل خلق محمود أي وهي توبة الخواص.
وقال بعضهم : التوبة أن يتوب من كل شيء سوى الله تعالى أي وهي توبة الأخص فعليك بالتوبة والاستغفار فإنها صابون الأوزار وفي الحديث القدسي :"أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين" أي : من أصواتهم بالتسبيح والإصرار يؤدي إلى الشرك والموت على غير الملة الإسلامية.
قال أبو إسحاق : رأيت رجلاً نصف وجهه مغطى فسألته فقال : كنت نباشاً فنبشت ليلة قبر امرأة فلطمتني وعلى وجهه أثر الأصابع فكتبت ذلك إلى الأوزاعي فكتب إليّ أن أسأله كيف وجد أهل القبور فسألته فقال : وجدت أكثرهم متحولاً عن القبلة فقال الأوزاعي : هو الذي مات على غير الملة الإسلامية أي بسب الإصرار المؤدي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
وذكر في أصول الفقه أن ارتكاب المنهي أشد ذنباً من ترك المأمور ومع ذلك صار إبليس مردوداً.
وفي "المثنوي" :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٨
توبه زا از جانب مغرب درى
بازباشد تاقيامت بردرى
تا ز مغرب برزند سر آفتاب
باز باشد آن درازوى رومتاب
هشت جنت را زرحمت هشت در
كه در توبه است زان هشت أي سر
آن همه كه باز باشد كه فراز
وإن درتوبه نباشد جزكه باز
هين غنيمت دار دربازست زود
رخت آنجا كش بكورىء حسود
نسأل الله تعالى توبة نصوحاً ومن آثار رحمته فيضاً ونوالاً وفتوحاً.
﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ من الشهادة وهي الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان.
والزور الكذب وأصله تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.
وقال الراغب : الأزور المائل الزور أي الصدر وقيل للكذب زور لكونه مائلاً عن جهته وانتصابه على المصدرية والأصل لا يشهدون شهادة الزور بإضافة العام إلى الخاص فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والمعنى لا يقيمون الشهادة الكاذبة.
وبالفارسية (كواهى دروغ ندهند).
واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور.
فقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يعزر بل يوقف في قومه ويقال لهم : إنه شاهد زور.
وقال الثلاثة : يعزر ويوقف في قومه ويعرفون أنه شاهد زور.
وقال مالك : يشهر في الجوامع والأسواق والمجامع.
وقال أحمد : يطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال : إنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف في الأسواق كما في "كشف الأسرار".
قال ابن عطاء رحمه الله : هي شهادة اللسان من غير مشاهدة القلب ويجوز أن يكون يشهدون من الشهود وهو الحضور وانتصاب
٢٤٩
الزور على المفعول به والأصل لا يشهدون مجالس الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والمعنى لا يحضرون محاضر الكذب ومجالس الفحش فإن مشاهدة الباطل مشاركة فيه من حيث أنها دليل الرضى به كما إذا جالس شارب الخمر يغير ضرورة فإنه شريك في الإثم.
وأما الملامية وهم الذين لا يظهرون خيراً ولا يضمرون شراً لانفراد قلوبهم مع الله يمشون في الأسواق ويتكلمون مع الناس بكلام العامة ويحضرون بعض مواضع الشرور لمشاهدة القضاء والقدر حتى يوافقوا الناس في الشر فهم في الحقيقة عباد الرحمن وهم المرادون بقوله عليه السلام :"أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري" : قال الحافظ :
مكن بنامه سياهى ملامت من مست
كه آكهست تقدير برسرش ه نوشت
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٨
وقال الخجندي :
برخيز كمال از سرنا موس كه رندان
كردند اقامت بسر كوى ملامت
وقال بعضهم : المراد بالور أعياد المشركين واليهود والنصارى (يا بازيكاه ايشان) كما في "تفسير الكاشفي".


الصفحة التالية
Icon