﴿أولئك﴾ المتصفون بما فصل في حيز صلة الموصولات الثمانية من حيث اتصافهم به والمستجمون لهذه الخصال وهو مبتدأ خبره قوله تعالى :﴿يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ الجزاء الغناء والكفاية والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
والغرف رفع الشيء أو تناوله يقال غرفت الماء والمرق والغرفة الدرجة العالية من المنازل لكل بناء مرتفع عال أي يثابون أعلى منازل الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى :﴿وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ﴾ (سبأ : ٣٧) ودر فصول عبد الوهاب (كوشكهاست برجهار قائمة نهاده از سيم وزر ولؤلؤ ومرجان) ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ ما مصدرية ولم يقيد الصبر بالمتعلق بل أطلق ليشيع في كل مصبور عليه.
والمعنى بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات ومن ذلك الوصم قال عليه السلام :"الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان" أي : فيكون الصوم ربع الإيمان وهو أي الصوم قهر لعدو الله فإن وسيلة الشيطان الشهوات وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب
٢٥٤
ولذلك قال عليه السلام :"إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع".
جوع باشد غداي أهل صفا
محنت وابتلاي أهل هوا
جوع تنوير خانه دل تست
أكل تعمير خانه كل تست
خانه دل كذا شتى بي نور
خانه كل ه ميكنى معمور
وفي الحديث :"إن في الجنة لغرفاً مبنية في الهواء لا علاقة من فوقها ولا عماد لها من تحتها لا يأتيها أهلها إلا شبه الطير لا ينالها إلا أهل البلاء" أي : الصابرون منهم.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿أولئك يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ من مقام العندية في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾.
في البداية على أداء الأوامر وترك النواهي وفي الوسط على تبديل الأخلاق الذميمة بالأخلاق الحميدة وفي النهاية على إفناء الوجود الإنساني في الوجود الرباني انتهى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٤
والصبر ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله.
قال بعض الكبار : من أدب العارف بالله تعالى إذا أصابه ألم أن يرجع إلى الله تعالى بالشكوى رجوع أيوب عليه السلام أدباً مع الله وإظهاراً للعجز حتى لا يقاوم القهر الإلهي كما يفعله أهل الجهل بالله ويظنون أنهم أهل تسليم وتفويض وعدم اعتراف فجمعوا بين جهالتين ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا﴾ أي في الغرفة من جهة الملائكة ﴿تَحِيَّةً﴾ (التلقية : يزى يش كسى را آوردن) يعدى إلى المفعول الثاني بالباء وبنفسه كما في "تاج المصادر" يقال : لقيته كذا وبكذا إذا استقبلته به كما في "المفردات".
والمعنى يستقبلون فيها بالتحية ﴿وَسَلَـامًا﴾ أي : وبالسلام تحييهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات فإن التحية هي الدعاء بالتعمير والسلام هو الدعاء بالسلامة.
قال في "المفردات" : التحية أن يقال : حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء ويقال حيّا فلان فلاناً تحية إذا قال له ذلك وأصل التحية من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول حياة أو سبب حياة إما لدنيا وإما لآخرة ومنه التحيات والسلام والسلامة التعري عن الآفات الظاهرة والباطنة وليست السلامة الحقيقية إلا في الجنة لأن فيها بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعزا بلا ذل وصحة بلا سقم.
قال بعضهم : الفرق أن السلام سلامة العارفين في الوصال عن الفرقة والتحية روح تجلي حياة الحق الأزلي على أرواحهم وأشباحهم فيحيون حياة أبدية.
وقال بعضهم : ويلقون فيها تحية يحيون بها بحياة الله وسلاماً يسلمون به من الاستهلاك الكلي كما استحفظ إبراهيم عليه السلام من آفة البرد بالسلام بقوله تعالى :﴿كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء : ٦٩).
سلامت من دلخسته درسلام توباشد
زهى سعادت أكردولست سلام تويابم
﴿خَـالِدِينَ فِيهَا﴾ حال من فاعل يجزون أي حال كونهم لا يموتون ولا يخرجون من الغرفة.
﴿حَسُنَتْ﴾ الغرفة ﴿مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ من جهة كونها موضع قرار وإقامة وهو مقابل ساءت مستقراً معنى ومثله إعراباً.
فعلى العاقل أن يتهيأ لمثل هذه الغرفة العالية الحسنة بما سبق من الأعمال الفاضلة المستحسنة ولا يقع في مجرد الأماني والآمال فإن الأمنية كالموت بلا أشكال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٤
وبقدر الكدّ والتعب تكتسب المعالي
ومن طلب العلى جد في الأيام والليالي
٢٥٥


الصفحة التالية
Icon