قال بعض الكبار : من أراد أن يعرف بعض محبة الحق أو محبته له فلينظر إلى حاله الذي هو عليه من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والأئمة المجتهدين بعده فإن وجد نفسه على هداهم وأخلاقهم من الزهد والورع وقيام الليل على الدوام وفعل جميع المأمورات الشرعية وترك جميع المنهيات حتى صار يفرح بالبلايا والمحن وضيق العيش وينشرح لتحويل الدنيا ومناصبها وشهواتها عنه فليعلم أن الله يحبه وإلا فليحكم بأن الله يبغضه والإنسان على نفسه بصيرة.
وفي الإكثار من النوافل توطئة لمحبة الله تعالى قال عليه السلام حاكياً عن الله تعالى :"ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما فرضت عليهم ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه" ومن آثار محبته تعالى لعبده المطيع له إعطاء الغرفة العالية له في الجنة لعلو قدره ومنزلته عنده وإذا وقع التجلي الإلهي يكونون جلوساً على مراتبهم فالأنبياء على المنابر والأولياء على الأسرة والعلماء بالله على الكراسي والمؤمنون المقلدون في توحيدهم على مراتب وذلك الجلوس كله يكون في جنة عدن عند الكثيب الأبيض وأما من كان موحداً من طريق النظر في الأدلة فيكون جالساً على الأرض وإنما نزل هذا عن الرتبة التي للمقلد في التوحيد لأنه تطرقه الشبه من تعارض الأدلة والمقالات في الله وصفاته فمن كان تقليده للشارع جزماً فهو أوثق إيماناً ممن يأخذ توحيده من النظر في الأدلة ويؤولها.
واعلم أن الله تعالى إنما ذكر الغرفة في الحقيقة لأجل الطامعين الراغبين فيها وأما خواص عباده فليس لهم طمع في شيء سوى الله تعالى فلهم فوق الغرفة ونعيمها نعيم آخر تشير إليه التحية والسلام على تقدير أن يكونا من الله تعالى إذ لا يلتذ العاشق بشيء فوق ما يلتذ بمطالعة جمال معشوقه وسماع كلامه وخطابه ـ ـ حكي أنه كان لبعضهم جار نصراني فقال له : أسلم على أن أضمن لك الجنة فقال النصراني : الجنة مخلوقة لا خطر لها ثم ذكر له الحور والقصور فقال : أريد أفضل من هذا.
صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور
فقال : أسلم على أن أضمن لك رؤية الله تعالى فقال : الآن وجدت ليس شيء أفضل من رؤية الله فأسلم ثم مات فرآه في المنام على مركب في الجنة فقال له : أنت فلان قال : نعم قال : ما فعل الله بك قال : لما خرج روحي ذهب به إلى العرش فقال الله تعالى : آمنت بي شوقاً إلى لقائي فلك الرضى والبقاء.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٤
﴿قُلْ﴾ يا محمد للناس كافة ﴿مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ﴾ هذا بيان لحال المؤمنين منهم وما استفهامية محلها النصب على المصدر أو نافية وما يعبأ ما يبالي ولا يعتد كما في "القاموس" ما أعبأ بفلان ما أبالي وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ودعاؤكم مبتدأ خبره موجود أو واقع وهو مصدر مضاف إلى الفاعل بمعنى العبادة كما في قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ﴾ (الفرقان : ٦٨) ونظائره والمعنى على الاستهفهامية أي عبء واعتبار يعتبركم ربي ويبالي ويعتني بشأنكم لولا عبادتكم وطاعتكم له تعالى فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء.
وقال الزجاج : أي وزن ومقدار يكون لكم عند الله تعالى لولا عبادتكم له تعالى وذلك أن أصل العبء بالكسر والفتح بمعنى الثقل والحمل من أي شيء كان فمعنى ما أعبأ به في الحقيقة ما أرى له وزناً وقدراً وإليه جنح الإمام الراغب في الآية هذا
٢٥٦
وفي الآية معانٍ أخر والأظهر عند المحققين ما ذكرناه.
﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ بيان لحال الكفرة من الناس أي فقد كذبتم أيها الكفرة بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وخرجتم عن أن يكون لكم عن الله اعتناء بشأنكم واعتبار أو وزن ومقدار ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا﴾ مصدر كالقتال أقيم مقام الفاعل كما يقام العدل في مقام العادل أي يكون جزاء التكذيب أو أثره وهو الأفعال المتفرعة عليه لازماً يحيق بكم لا محالة حتى يكبكم في النار أي يصرعكم على وجوهكم كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها وإنما أضمر من غير ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره للتنبيه على أنه مما لا يكتنهه الوصف والبيان.
وعن بعضهم أن المراد بالجزاء جزاء الدنيا وهو ما وقع يوم بدر قتل منهم وأسر سبعون ثم اتصل به عذاب الآخرة لازماً لهم.
قال الشيخ سعدى قدس سره.
رذب ناورد وب خر زهره بار
ه تخم اكفنى برهمان شم دار
واعلم أن الكفار أبطلوا الاستعداد الفطري وأفسدوا القوى بالإهمال فكان حالهم كحال النوى فإنه محال أن ينبت منه الإنسان تفاحاً فأصل الخلق والقوة لا يتغير ألبتة ولكن كما أن في النوى إمكان أن يخرج ما في قوته إلى الوجود وهو النخل بالتفقد والتربية وأن يفسد بالإهمال والترك، فكذا في الإنسان إمكان إصلاح القوة وإفسادها ولولا ذلك لبطل فائدة المواعظ والوصايا والوعد والوعيد والأمر والنهي ولا يجوز العقل أن يقال للعبد لم فعلت ولم تركت وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعاً وقد وجدناه في بعض البهائم ممكناً فالوحشي قد ينتقل بالعادة إلى التأنس والجامح إلى السلاسة فالتوحيد والتصديق والطاعة أمر ممكن من الإنسان بإزالة الشرك والتكذيب والعصيان وقد خلق لأجلها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه.
يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) فالحكمة الإلهية والمصلحة الربانية من الخلق هي الطاعة وأفعال الله تعالى وإن لم تكن معللة بالأغراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٤
قال الإمام الراغب : الإنسان في هذه الدار الدنيا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الناس سفر والدار دار ممرّ لا دار مقر وبطن أمه مبدأ سفره والآخرة مقصده وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه ويسار به سير السفينة براكبها كما قال الشاعر.
رأيت أخا الدنيا وإن كان ثاوياً
أخا سفر يسري به وهو لا يدري
وقد دعى إلى دار السلام لكن لما كان الطريق إليها مشكلة مظلمة جعل الله لنا من العقل الذي ركبه فينا وكتبه التي أنزلها علينا نوراً هادياً ومن عبادته التي كتبها علينا وأمرنا بها حصناً واقياً فمن قال هذه الطاعات جعلها الله عذاباً علينا من غير تأويل كفر فإن أوّل مراده بالتعب لا يكفر ولو قال : لو لم يفرض الله تعالى كان خيراً لنا بلا تأويل كفر لأن الخير فيما اختاره الله إلا أن يؤول ويريد بالخير الأهون والأسهل نسأل الله أن يسهلها علينا في الباطن والظاهر والأول والآخر.
٢٥٧
تمت سورة الفرقان في سادس شهر رمضان المبارك يوم السبت من سنة ثمان ومائة وألف.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٥٤


الصفحة التالية
Icon