قال بعضهم : بدأ فرعون بكلام السفلة ومنّ على نبي الله بما أطعمه والمنة النعمة الثقيلة.
ويقال ذلك على وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك بالفعل فيقال : منّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله تعالى :﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران : ١٦٤) وذلك في الحقيقة لا يكون إلا تعالى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٦٦
والثاني : أن يكون ذلك بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة ولقبح ذلك قيل : المنة تهدم الصنيعة ولحسن ذكرها عند الكفران قيل : إذا كفرت النعمة حسنت المنة أي عد النعمة.
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : ليس من الفتوة تذكار الصنائع وتعدادها على من اصطنعت إليه ألا ترى إلى فرعون لما لم يكن له فتوة كيف ذكر صنيعه وامتن به على موسى :
از نا كسان دهر ثبوت طمع مدار
از طبع دير خاصيت آدمي مجوى
اعلم أن الله تعالى جعل موسى عليه السلام مظهر صفة لطفه بأن جعله نبياً مرسلاً وله في هذا المعنى كمالية لا يبلغها إلا بالتربية ومقاساة شدائد الرسالة مع فرعون وجعل فرعون مظهر صفة قهره بأن جعله مكذباً لموسى ومعانداً له وكان لفرعون كمالية في التمرد والإباء والاستكبار لم يبلغها إبليس، ليعلم أن للإنسان استعداداً في إظهار صفة اللطف لم يكن للملك ولذلك صار الإنسان مسجوداً للملك والملك ساجده، ولو لم يكن موسى عليه السلام داعياً لفرعون إلى الله تعالى وهو مكذبه لم يبلغ فرعون إلى كماليته في التمرد ليكون مظهر الصفة القهر بالتربية في التمرد كذا في "التأويلات النجمية" وقس عليهما كل موسى وكل فرعون في كل عصر إلى قيام الساعة فإن الأشياء تتبين بالأضداد وتبلغ إلى كمالها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٦٦
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ ما استفهامية معناها أي شيء والرب المربي والمتكفل لمصلحة الموجودات والعالم اسم لما سوى الله تعالى
٢٦٨
من الجواهر والأعراض، والمعنى أي شيء رب العالمين الذي ادعيت أنك رسوله وما حقيقته الخاصة ومن أي جنس هو منكراً لأن يكون للعالمين رب سواه.
قال الكاشفي :(ون فرعون شنيده بودكه موسى كفت أنا رسول رب العالمين أسلوب سخن كبر دانيد وازروي امتحان كفت يست روردكار عالميان وه يزاست سؤال از ماهيت كرد) ولما لم يمكن تعريفه تعالى إلا بلوازمه الخارجية لاستحالة التركيب في ذاته من جنس وفصل ﴿قَالَ﴾ موسى مجيباً له بما يصح في وصفه تعالى.
﴿رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ عين ما أراده بالعالمين لئلا يحمله اللعين على ما تحت مملكته ﴿إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ بالأشياء المحققين لها بالنظر الصحيح الذي يؤدي إلى الإتيان وهو بالفارسية :(بي كمان شدن) علمتم أن العالم عبارة عن كل ما يعلم به الصانع من السموات والأرض وما بينهما وأن ربها هو الذي خلقها ورزق من فيها ودبر أمورها فهذا تعريفه وجواب سؤالكم لا غير والخطاب في كنتم لفرعون وأشراف قومه الحاضرين.
قال الكاشفي :(هي كس را از حقيقة حق آكاهي ممكن نيست هره در عقل وفهم ووهم وحواس وقياس كنجد ذات خدا وند تعالى ازان منزه ومقدس است ه آن همه محدثاً تند ومحدث جزا إدراك محدث نتوان كد).
آنكه او از حدث بر آرد دم
ه شاسد كه يست سرقدم
علم راسوي حضر تش ره نيست
عقل نبزاز كمالش آكه نيست
فمعنى العلم بالله العلم به من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشار العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما لا توفيه الطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل في ورط الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٦٨
﴿قَالَ﴾ فرعون عند سماع جوابه خوفاً من تأثيره في قلوب قومه وانقيادهم له.
﴿لِمَنْ حَوْلَهُ﴾ من أشراف قومه وهم القبط (وايشان اسند تن بود زيورها بسته وبركر سيهاي زرين نشسته) وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه وينقلب.
﴿أَلا تَسْتَمِعُونَ﴾ ما يقول فاستمعوه وتعجبوا منه في مقاله وفيه يريد ربوبية نفسه.
﴿قَالَ﴾ موسى زيادة في البيان وحطاً له عن مرتبة الربوبية إلى مرتبة المربوبية.
قال الكاشفي :(عدول كرد از ظهر آيات باقرب آيات بناظر وواضح آن بر متأمل) ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ﴾ وقيل : إن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره وزمانه فلم يدع ذلك على من كان قبله فبين بهذه الآية أن المستحق للربوبية هو رب كل عصر وزمان.
﴿قَالَ﴾ فرعون من سفاهته وصرفاً لقومه عن قبول الحق.
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ لا يصدر ما قاله عن العقلاء وسماه رسولاً على السخرية وإضافة إلى مخاطبيه ترفعاً من أن يكون مرسلاً إلى نفسه.
والجنون حائل بين النفس والعقل كما في "المفردات".


الصفحة التالية
Icon