﴿فَيَقُولُوا﴾ تحسراً على ما فات من الإيمان وتمنياً للإمهال لتلافي ما فرطوه وهو عطف على يأتيهم ﴿هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ﴾ الإنظار التأخير والإمهال أي مؤخرون لنؤمن ونصدق.
وبالفارسية :(آياهستيم ما درنك داده شد كان يعني آيا مهلت دهند تابكرديم وتصديق كنيم) ولما أوعدهم النبي عليه السلام بالعذاب قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب نزل قوله تعالى :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٠٨
﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ (آيا بعذاب ما شتاب ميكنند) فيقولون تارة : أمطر علينا حجارة من السماء وأخرى فائتنا بما تعدنا وحالهم عند نزول العذاب النظرة والمهلة والفاء للعطف عى مقدر أي يكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لايخفى على أحد.
وفي "التأويلات النجمية" : أي استعجالهم في طلب العذاب من نتائج عذابنا ولو لم يكونوا معذبين لما استعجلوا في طلب العذاب.
﴿أَفَرَءَيْتَ﴾ مرتب على قولهم : هل نحن منظرون وما بينهما اعتراض للتوبيخ والخطاب لكل من يصلح له كائناً من كان ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال أرأيت في معنى أخبرني فالمعنى أخبرني يا من يصلح للخطاب.
﴿إِن مَّتَّعْنَـاهُمْ﴾ جعلنا مشركي قريش متمتعين منتفعين.
﴿سِنِينَ﴾ كثيرة في الدنيا مع طيب المعاش ولم نهلكهم.
وقال الكلبي : يعني مدة إعمارهم.
وقال عطاء : يريد مذ خلق الله الدنيا إلى أن تنقضي.
﴿ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب والإيعاد.
والتخويف بالفارسية (بيم كدن).
﴿مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ أي : لم يغن عنهم شيئاً تمتعهم المتطاول في رفع العذاب وتخفيفه فما في ما أغنى نافية ومفعول أغنى محذوف وفاعله ما كانوا يمتعون، أو أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتيع
٣٠٨
المؤبد على أن ما في ما كانوا مصدرية أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها فما في ما أغنى مفعول مقدم لأغنى والاستفهام للنفي وما كانوا هو الفاعل وهذا المعنى أولى من الأول لكونه أوفق بصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده كأن كل من شأنه الخطاب قد كلف بأن يخبر بأن تمتيعهم ما أفادهم وأي شيء أغنى عنهم فلم يقدر أحد أن يخبر بشيء من ذلك أصلاً.
روي : أن ميمون بن مهران لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : أعظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت.
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يقرأ هذه الآية كل صباح إذا جلس على سريره تذكراً بها واتعاظاً.
جهان بي وفاييست مردم فريب
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٠٨
كه از دل ربايد قد او شكيب
نكرتا بجاهش نكردي أسير
نكردي ي ما لش اندر زحير
كه آندم كه مردك اندر آيد زراه
نه مالت كند دستكيري نهجاه
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : أشد الناس غفلة من اغتر بحياته الفانية والتذ بموداته الواهية وسكن إلى مألوفاته.
كان الرشيد حبس رجلاً فقال الرجل للموكل عليه : قل لأمير المؤمنين : كل يوم مضى من نعمك ينقص من محنتي والأمر قريب والموعد الصراط والحاكم الله فخر الرشيد مغشياً عليه ثم أفاق وأمر بإطلاقه.
﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ من القرى المهلكة ﴿إِلا لَهَا مُنذِرُونَ﴾ قد أنذروا أهلها.
قال في "كشف الأسرار" : جمع منذرين لأن المراد بهم النبي وأتباعه المظاهرون له ﴿ذِكْرَى﴾ أي لأجل التذكير والموعظة وإلزام الحجة فمحلها النصب على العلة ﴿وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ﴾ فنهلك غير الظالمين والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلاً على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ أي من أهل قرية فالقرية الجسد الإنساني وأهلها النفس والقلب والروح وإهلاكهم بإفساد استعدادهم الفطري بترك المأمورات وإتيان المنهيات.
﴿إِلا لَهَا مُنذِرُونَ﴾ بالإلهامات الربانية.
﴿ذِكْرَى﴾ أي تذكرة من ربهم كما قال تعالى :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا﴾ (الشمس : ٧، ٨) ﴿وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ﴾ (الشعراء : ٢٠٩) بأن نضع العذاب في غير موضعه أو نضع الرحمة في غير موضعها انتهى.


الصفحة التالية
Icon