في عالم المعنى إلا ويكون أصم وأبكم وإليه الإشارة بقوله عليه السلام :"حبك الشيء يعمي ويصم" بخلاف أعمى الصورة فإن سمعه بحاله في سماع الدعوة وقبولها.
فعى العاقل أن يجتنب عن الأعمال القبيحة المؤدية للرين والردى والأخلاق الرذيلة الموجبة للعمه والعمى بل يتسارع إلى العمل بالقرآن الهادي إلى وصول المولى والناهي عن الخسران مطلقاً وعن الأعمال الصالحة والصلاة.
وإنما شرعت لمناجاة الحق بكلامه حال القيام دون غيره من أحوال الصلاة للاشتراك في القيومية ولهذا كان من أدب الملوك إذا كلمهم أحد من رعيتهم أن يقوم بين أيديهم ويكلمهم ولا يكلمهم جالساً فتبع الشرع في ذلك العرف.
ومن آداب العارف إذا قرأ في صلاته المطلقة أن لا يقصد قراةء سورة معينة أو آية معينة وذلك لأنه لا يدري أين يسلك به ربه من طريق مناجاته فالعارف بحسب ما يناجيه به من كلامه وبحسب ما يلقي الله الحق في خاطره وكل صلاة لا يحصل منها حضور قلب فهي ميتة لا روح فيها وإذا لم يكن فيها روح فلا تأخذ بيد صاحبها يوم القيامة.
ومن الأعمال الصالحة المذكورة الزكاة والصدقة وأفضلها ما يعطى حال الصحة دون مرض الموت وينبغي لمن قرب أجله وأراد أن يعطي شيئاً أن يحضر في نفسه أنه مؤد أمانة لصاحبها فيحشر مع الأمناء المؤدين أمانتهم لا مع المتصدقين لفوات محل الأفضل فهذه حيلة في ربح التجارة في باب الصدقة وفي الإنفاق زيادة للمال وتكثير له وإطالة لفروعه كالحبوب إذا زرعت.
﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ﴾ لتعطاه بطريق التلقية والتلقين يقال : تلقى الكلام من فلان ولقنه إذا أخذه من لفظه وفهمه.
قال في "تاج المصادر" : التلقية (يزي يش كسى وآوردن) وقد سبق الفرق بين التلقي والتلقف والتلقن في سورة النور.
﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ بواسطة جبريل لا من لدن نفسك ولا من تلقاء غيرك كما يزعم الكفار.
ولدن بمعنى عند إلا أنه أبلغ منه وأخص وتنوين الاسمين للتعظيم أي حكيم أي حكيم وعليم أي عليم وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على طبقته عليه السلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق فإن تلقي الحكم والعلوم من مثل ذلك الحكيم العليم يكون علماً في رصانة العلم والحكمة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٩
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل والرسالات من لفظه وحياً وإنك وإن كنت تلقى القرآن بتنزيل جبريل على قلبك ولكنك تلقى حقائق القرآن من لدن حكيم تجلى لقلبك بحكمة القرآن وهي صفة القائمة بذاته فعلمك حقائق القرآن وجعلك بحكمته مستعداً لقبول فيض القرآن بلا واسطة وهو العلم اللدني وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وفي الجمع بين الحكيم والعليم إشعار بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.
ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم فقال :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣١٩
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لاهْلِهِ﴾ أهل الإنسان من يختص به أي أي اذكر لقومك يا محمد وقت قول موسى لزوجته ومن معها في وادي الطور وذلك أنه مكث بمدين عند شعيب عشر سنين ثم سار بأهله بنت شعيب إلى مصر.
يعني (بقصد آنكه تا مادر خويش ودو خواهر خويش يكي زن قارون ويكي زن يوشع بود ازا نجابيارد) فضل الطريق في
٣٢٠
ليلة مظلمة شديدة البرد وقد أخذ امرأته الطلق فقدح فأصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار فقال لأهله : اثبتوا مكانكم، ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ أبصرت.
قال في "التاج" :(الإيناس : ديدن) والباب يدل على ظهور الشيء وكل شيء خالف طريقة التوحش.
قال مقاتل : النار هو النور وهو نور رب العزة رآه ليلة الجمعة عن يمين الجبل بالأرض المقدسة وقد سبق سر تجلي النور في صورة النار في سورة طه.
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ أي : عن حال الطريق أين هو والسين للدلالة على بعد المسافة أو لتحقيق الوعد بالإتيان وإن أبطأ فيكون للتأكيد.
وبالفارسية (زور باشدكه بيارم از نزديك آن آتش خبري يعني از كسى كه برسر آن آتش باشد خبر راه رسم.
﴿أَوْ ءَاتِيكُم﴾ (يا بيارم) ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من معظم النار ومن أصلها إن لم أجد عندها من يدلني على الطريق فإن عادة الله أن لا يجمع حرمانين على عبده يقال : اقتبست منه ناراً وعلماً استفدته منه.
وفي "المفردات" : الشهاب الشعلة الساطعة من النار المتوقدة والقبس المتناول من الشعلة والاقتباس طلب ذلك ثم استعير لطلب العلم والهداية انتهى.
فإن قلت : قال في طه :﴿فَلَمَّا قَضَى﴾ (طه : ١٠) ترجياً وهنا ﴿سَـاَاتِيكُم﴾ إخباراً وتيقناً وبينهما تدافع.
قلت : لا تدافع لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول : سأفعل كذا مع تجويزه خلاف ذلك ﴿لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ رجاء أن تدفعوا البرد بحرها.
والصلاء النار العظيمة والاصطلاء (كرم شدن بآتش).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٢٠


الصفحة التالية
Icon