قال قتادة : وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام تكتب جملاً لا تطيل يعني أن هذا القدر الذي ذكره الله تعالى كان كتاب سليمان وليس الأمر فيه بالإسلام قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يتوهم كونه استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة معجزة باهرة دالة على رسالة مرسلها دلالة بينة.
يقول الفقير : يكفي في هذا الباب حصول العلم الضروري بصدق الرسول وإلا فهي لا تستبعد كون الإلقاء المذكور بتصرف من الجن وقد كان الجن يظهرون لها بعض الخوارق ومنها صنعة العرش العظيم لها لأن أمها كانت
٣٤٢
جنية فاعرف.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿قَالَتْ﴾ كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزه من قولها : يا اأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} أجيبوني في الذي ذكرت لكم واذكروا ما تستصوبون فيه.
وبالفارسي :(فتوى دهيد مرا دركار من وآنه صلاح وصواب باشد با من بكوييده) وعبرت عن الجواب بالفتوى الذي هو الجواب في الحوادث المشكلة غالباً إشعاراً بأنهم قادرون على حل المشكلات النازلة.
قال بعضهم : الفتوى من الفتى وهو الشاب القوي وسميت الفتوى لأن المفتي أي المجيب الحاكم بما هو صواب يقوي السائل في جواب الحادثة.
﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا﴾ فاصلة ومنفذة أمراً من الأمور.
﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ تحضروني، أي لا أقطع أمراً إلا بمحضركم وبموجب آرائكم.
وبالفارسية :(تا شما ن زد من حاضر كرديد يعني بي حضور ومشورت شما كاري نميكنيم) وهو استمالة لقلوبهم لئلا يخالفوها في الرأي والتدبير.
وفيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يكون مستبداً برأيه ويكون مشاوراً في جميع ما سنح له من الأمور لا سيما الملوك يجب أن يكون لهم قوم من أهل الرأي والبصيرة فلا يقطعون أمراً إلا بمشاورتهم :
مشورت رهبر صواب آمد
درهمه كار مشورت بايد
كار آنكس كه مشورت نكند
غايتش غالباً خطا آيد
﴿قَالُوا﴾ كأنه قيل : فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل : قالوا :﴿نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ﴾ ذوو قوة في الآلات والأجساد والعدد.
﴿وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي نجدة وشجاعة في الحرب وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك.
﴿وَالامْرُ﴾ مفوض ﴿إِلَيْكِ فَانظُرِى﴾ (س درنكر وببين) ﴿مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ تشيرين علينا.
قال الكاشفي :(تاه ميفرمايي از مقاتله ومصالحه).
اكر جنك خواهي بنزد آوريم
دل دشمنانرا بدرد آوريم
وكر صلح جويي ترا بنده ايم
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٢
بتسليم حكمت سرافكنده ايم
وفيه إشارة إلى أن شرط أهلي المشاورة أن لا يحكموا على الرئيس المستشير بشيء بل يخبرونه فيما أراد من الرأي الصائب فلعله أعلم بصلاح حاله منهم :
خلال رأي سلطان رأي جستن
بخون خويش باشد دست شستن
فلما أحست بلقيس منهم الميل إلى الحرب والعدول عن سنن الصواب بادعائهم القوي الذاتية والعرضية شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان.
قال الكاشفي :(بلقيس كفت مارا مصلحت جنك نيست ه كارحرب در روى دارد اكر إيشان غالب آيند ديار وأموال ما عرضه تلف شود) كما قال تعالى :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٤٢
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً﴾ من القرى ومدينة من المدن على منهاج المقاتلة والحرب.
﴿أَفْسَدُوهَا﴾ بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ﴾ جمع عزيز بمعنى القاهر الغالب والشريف العظيم من العزة وهي حالة مانعة للإنسان من أن يغلب.
﴿أَذِلَّةً﴾ جمع ذليل.
وبالفارسية (خوار وبيمقدار) أي بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال.
﴿وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (وهمنين ميكنند) وهو تأكيد لما قبله وتقرير بأن ذلك من عادتهم المستمرة
٣٤٣
فيكون من تمام كلام بلقيس ويجوز أن يكون تصديقاً لها من جهة الله تعالى أي وكما قالت هي تفعل الملوك.
وفيه إشارة إلى أن العاقل مهما تيسر له دفع الخصوم بطريق صالح لا يوقع نفسه في خطر الهلاك بالمحاربة والمقاتلة بالاختيار إلا أن يكون مضطراً.
قال بعضهم : من السؤدد الصلح وترك الإفراط في الغيرة.
وفيه إشارة أخرى وهي أن ملوك الصفات الربانية إذا دخلوا قرية الشخص الإنساني بالتجلي أفسدوها بإفساد الطبيعة الإنسانية الحيوانية.
﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ﴾ وهم النفس الأمارة وصفاتها.
﴿أَذِلَّةً﴾ لذلوليتهم بسطوات التجلي.
﴿وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ﴾ مع الأنبياء والأولياء لأنهم خلقوا لمرآتية هذه الصفات إظهاراً للكنز المخفي فيكون قوله : إن الملوك إلخ نعت العارف كما قال أبو يزيد البسطامي قدس سره.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : أشار إلى قلوب المؤمنين فإن المعرفة إذا دخلت القلوب زال عنها الأماني والمرادات أجمع فلا يكون القلب محل غير الله.


الصفحة التالية
Icon