وفيه إشارة إلى أن الهجرة من أرض الظلم إلى أرض العدل لازمة خصوصاً من أرض الظالمين المؤاخذين بأنواع العقوبات إذ مكان الظلم ظلمة فلا نور للعبادة فيه وإن الإنسان إذا ظلم في أرض ثم تاب فالأفضل له أن يهاجر منها إلى مكان لم يعص الله تعالى فيه، ثم إن الظالم المفسد في مدينة القالب الإنساني هي العناصر الأربعة والحواس الخمس وهي تسعة رهط يجتهدون في غلبة صالح القلب لمخالفته لهم فإن القلب يدعوهم إلى العبودية وترك الشهوات وهم يدعونه إلى النظر إلى الدنيا والأعراض عن العقبى والتعطل عن خدمة المولى فإذا كان القلب مؤيداً بالإلهام الرباني لا يميل إلى الحظوظ الظاهرة والباطنة ويغلب على القوى جميعاً فيحصل له النجاة وتهلك الخواص التسع وآفاتها فيبقى القالب والأعضاء التي هي مساكن الخواص خالية عن الخواص والآفات الغالبة ثم لا يحيا ما مات أبداً ونعم ما قيل :"الفاني لا يرد إلى أوصافه" (س أوليارا خوف ظهور طبيعت نيست زيراكه طبيعت ونفس عدواست وعدو خالي نميشودازغدر ومكر س ون عداوت بمحبت منقلب ميشود مكر زائل كردد وخوف نماند) نسأل الله سبحانه أن ينجينا من مكر النفس والشيطان ويخلصنا من مكاره الأعداء مطلقاً في كل زمان.
﴿وَلُوطًا﴾ أي : وأرسلنا لوطاً بن هاران ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأفعال والأقوال.
وقال بعضهم : انتصاب لوطاً بإضمار اذكر وإذ بدل منه أي واذكر إذ قال لوط لقومه على وجه الإنكار عليهم.
﴿أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ﴾ الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال والمراد به ههنا اللواطة والإتيان في الأدبار.
والمعنى أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح وبالفارسية :(آيامي آإييد بعمل زشت).
﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ من بصر القلب وهو العلم فإنه يقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة، ويقال للضرير بصير على سبيل العكس أو لما له قوة بصيرة القلب أي والحال أنكم تعلمون فحشها علماً يقينياً وتعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح من غيره ولذا قيل : فساد كبير جاهل متنسك وعالم متهتك، أو من نظر العين أي وأنتم تبصرونها بعضكم من بعض لما أنهم كانوا يعلنون بها ولا يستترون فيكون أفحش.
أئنَّكُمْ} (آيا شما) ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ بيان لإتيانهم الفاحشة وعلل الإتيان بقوله :﴿شَهْوَةً﴾ للدلالة على قبحه والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر وأصل الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده ﴿مِّن دُونِ النِّسَآءِ﴾ أي حال كونكم مجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة.
﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ حيث لا تعملون بموجب علمكم فإن من لا يجري على مقتضى بصارته وعلمه ويفعل فعل الجاهل
٣٥٨
فهو والجاهل سواء وتجهلون صفة لقوم والتاء فيه لكون الموصوف في معنى المخاطب.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٥٧
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ نصب الجواب لأنه خبر كان واسمه قوله :﴿إِلا أَن قَالُوا﴾ أي : قول بعضهم لبعض ﴿أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ﴾ ومن تبعه ﴿مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾ وهي سدوم ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ﴾ جمع إنس والناس مخفف منه، والمعنى بالفارسية :(بدرستي كه إيشان مردمانندكه) ﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾ يتنزهون عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون أفعالنا قذراً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه على طريق الاستهزاء وهذا لجواب هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المواعظ بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره.
﴿فَأَنجَيْنَـاهُ﴾ أي : لوطاً ﴿وَأَهْلَهُ﴾ أي : بنيته ريشاء ورعواء بأن أمرناهم بالخروج من القرية.
﴿إِلا امْرَأَتَهُ﴾ الكافرة المسماة بواهلة لم ننجها.
﴿قَدَّرْنَـاهَا مِنَ الْغَـابِرِينَ﴾ أي : قدرنا وقضينا كونها من الباقين في العذاب فلذا لم يخرج من القرية مع لوط أو خرجت ومسخت حجراً كما سبق يقال : غبر غبوراً إذا بقي وتمامه في أواخر سورة الشعراء.
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم﴾.
بعد قلب قريتهم وجعل عاليها سافلها أو على شذاذهم ومن كان منهم في الأسفار.
﴿مَّطَرًا﴾ غير معهود وهو حجارة السجيل ﴿فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾ أي : بئس مطر من أنذر فلم يخف والمخصوص بالذم هو الحجارة.
قال ابن عطية : وهذه الآية أصل لمن جعل من الفقهاء الرجم في اللواط لأن الله تعالى عذبهم على معصيتهم به ومذهب مالك رجم الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا ومذهب الشافعي وأحمد حكمه كالزنى فيه الرجم مع الإحصان والجلد مع عدمه ومذهب أبي حنيفة أنه يعزر ولا حد عليه خلافاً لصاحبيه فإنهما ألحقاه بالزنى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٥٩


الصفحة التالية
Icon