وللاثنين من المذكر والمؤنث هاتيا دون هاتا من غير أن فرقوا في الأمر لهما كما لم يفرقوا بينهما في ضمير المثنى في مثل قولك : غلامهما وضربهما ولا في علامة التثنية التي في قولك الزيدان والهندان وكان الأصل في هات آت المأخوذ من آتى أي أعطى فقلبت الهمزة هاء كما قلبت في أرقت الماء وفي إياك فقيل هرقت وهياك.
وفي "ملح العرب" أن رجلاً قال لإعرابي هات فقال : والله ما أهاتيك أي ما أعطيك، ومعنى هاتوا بالفارسية (بياريد) ﴿بُرْهَـانَكُمْ﴾ عقلياً أو نقلياً يدل على أن معه تعالى إلهاً آخر والبرهان أوكد الأدلة وهو الذي يقتضي الصدق أبداً ﴿إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ أي في تلك الدعوى ثم بين تعالى تفرده بعلم الغيب تكميلاً لما قبله من اختصاصه بالقدرة التامة وتمهيداً لما بعده من أمر البعث فقال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ من الملائكة ﴿وَالارْضِ﴾ من الإنس والجن ﴿الْغَيْبَ﴾ وهو ما غاب عن العباد كالساعة ونحوها وسيجيء بيانه ﴿إِلا اللَّهُ﴾ أي لكن الله وحده يعلمه فالاستثناء منقطع والمستثنى مرفوع على أنه بدل من كلمة من على اللغة التميمية وأما الحجازيون فينصبونه ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني البشر أي لا يعلمون ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ متى ينشرون من القبور فأيان مركبة من أي وآن فأي للاستفهام وآن بمعنى الزمان فلما ركبا وجعلا اسماً واحداً بنيا على الفتح كبعلبك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٦٤
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن للغيب مراتب غيب هو غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين.
أحدهما ما غاب عنك في أرض الصورة وسمائها مثل غيبة شخص عنك أو غيبة أمر من الأمور ولك إمكان إحضار الشخص والاطلاع على الأمر الغائب وفي السماء مثل علم النجوم والهيئة ولك إمكان تحصيله بالتعلم وإن كان غائباً عنك.
وثانيهما ما غاب عنك في أرض المعنى وهو أرض النفس فإن فيها مخبئات من الأوصاف والأخلاق مما هو غائب عنك كيفية وكمية ولك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة والرياضة والذكر والفكر وسماء المعنى وهو سماء القلب فإن فيها مخبئات من العلوم والحكم والمعاني مما هو غائب عنك ولك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس والسلوك في مقامات القلب وغيب هو غيب أهل الأرض في الأرض والسماء أيضاً وليس للإنسان إمكان الوصول إليه إلا بإرادة الحق تعالى كما قال :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت : ٥٣) وغيب وهو غيب أهل السماء في السماء والأرض ليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعليم الحق تعالى مثل الأسماء كما :﴿أَنابِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ (البقرة : ٣١، ٣٢) ومن هنا تبين لك أن الله تعالى قد كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة وهو اطلاعه على مغيبات لم يطلع عليها الملائكة وذلك بتعلمه علم الأسماء كلها وغيب هو مخصوص بالحضرة ولا سبيل لأهل السموات والأرض إلى علمه إلا لمن ارتضى له كما قال :﴿فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ (الجن : ٢٦، ٢٧) وبهذا استدل على فضيلة الرسل على الملائكة لأن الله استخصهم بإظهارهم على غيبه دون الملائكة ولهذا أسجدهم لآدم لأنه كان مخصوصاً بإظهار الله إياه على غيبه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله خلق آدم فتجلى فيه" وغيب استأثر الله بعلمه وهو
٣٦٤
علم قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله كما قال :﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ انتهى قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٦٤
يقول الفقير : وأما ما قيل من أن من قال أن نبي الله لا يعلم الغيب فقد أخطأ فيما أصاب فهو بالنسبة إلى الاستثناء الوارد في قوله تعالى :﴿فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ (الجن : ٢٦، ٢٧) فإن بعض الغيب قد أظهره الله على رسوله كما سبق من "التأويلات".


الصفحة التالية
Icon