قال في "التأويلات النجمية" : أما الشيطان الجني فيضله بالوساوس والتسويلات والقاء الشبه وأما الشيطان الإنسي فبإيقاعه في مذاهب أهل الأهواء والبدع والفلاسفة والزنادقة المنكرين للبعث والمستدلين بالبراهين المعقولة بالعقول المشوبة بشوائب الوهم والخيال وظلمة الطبيعة فيستدل بشبههم ويتمسك بعقائدهم حتى يصير من جملتهم ويعد في زمرتهم كما قال تعالى :﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّه مِنْهُمْ﴾ (المائدة : ٥١) ويهديه بهذه الاستدلالات والشبهات إلى عذاب السعير سعير القطيعة والحرمان انتهى.
واعلم أن الكمال الآدمي في العلوم الحقيقية وهي أربعة :
الأول : معرفة النفس وما يتعلق بها.
والثاني : معرفة الله تعالى وما يتعلق به.
والثالث : معرفة الدنيا وما يتعلق بها.
والرابع : معرفة الآخرة وما يتعلق بها وأهل التقليد دون أهل الاستدلال وهم دون أهل الإيقان وهم أهل العيان ولا بد للسالك أن يجهد في الوصول إلى مرتبة العيان وذلك بتسليك مرشد كامل فإن الاتباع بغيره لا يوصل إلى المنزل.
قال المولى الجامي :
خواهي بصوب كعبة تحقيق ره بري
بي بري مقلدكم كرده ره مرو
وعند الوصول إلى مرتبة العيان يلزم غسل الكتب فإنه لا يحتاج إلى الدليل بعد الوصول إلى المدلول وفي "المثنوي" :
ون شدي بربامهاي آسمان
سرد باشد جست وجوي نرديان
آينه روشن كه شد صاف وجلي
جهل باشد برنهادن صيقلي
يش سلطان خوش نشسته در قبول
زشت باشد جستن نامه ورسول
وعند هذا المقام ينقطع الجدل من الأنام إذ لا جدال بعد العلم الحقيقي ولا اتباع للشيطان الأسود والأبيض بعد حط الرحل في عالم الذات الذي لا يدخله الشيطان وهو مقام آمن من شر الوسواس الخناس.
فعلى العاقل الاجتهاد في الليل والنهار لتزكية النفس وقمع الإنكار فإنه جهاد أكبر إذ النفس من الأعداء الباطنة التي يستصعب الاحتراز عنها.
نفس ازدرون وديو زبيرون زندرهم
ازمكراين دورهزن رحيله ون كنم
نسأل الله سبحانه أن يحفظنا من شر الأعداء ويجعلنا تابعين للحق الصريح الذي لا محيد عنه إنه أعظم ما يرجى منه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} يا أهل مكة المنكرين للبعث ﴿إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ﴾ البعث الإخراج من الأرض والتسيير إلى الموقف وجيء بأن مع كثرة المرتابين لاشتمال المقام على ما يقلع الريب من أصله وتصوير أن المقام لا تصلح إلا لمجرد الفرض له كما يفرض المحال إن كنتم في شك من إمكان الإعادة وكونها مقدورة له تعالى أو من وقوعها.
﴿فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم﴾ ليس جزاء للشرط لأن خلقهم مقدم على كونهم مرتابين بل هو علة للجزاء المحذوف أي فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم أي خلقنا كل
فرد منكم خلقاً إجمالياً ﴿مِّن تُرَابٍ﴾ في ضمن خلق آدم منه وفي الحديث :"إن الله جعل الأرض ذلولاً تمشون في مناكبها وخلق بني آدم من تراب ليذلهم بذلك فأبوا إلا نخوة واستكباراً ولن يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من خردل من كبر" ﴿ثُمَّ﴾ خلقناكم خلقاً تفصيلياً ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ هي الماء الصافي قلّ أو كثر ويعبر بها عن ماء الرجل من نطف الماء إذا سال أو من النطف وهو الصب ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ قطعة من الدم جامدة مكونة من المني ﴿ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾ أي قطعة من اللحم مكونة من العلق وهي في الأصل مقدار ما يمضغ ﴿مُّخَلَّقَةٍ﴾ بالجر صفة مضغة أي مستبينة الخلق مصورة.
﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي : لم يستبن خلقها وصورتها بعد والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولاً قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهر بعد ذلك شيء لكنه آخر غير المخلقة لكونها عدم الملكة كذا في "الإرشاد".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥
ويؤيده قول حضرة النجم في "التأويلات" :﴿مُّخَلَّقَةٍ﴾ أي منفوخة فيها الروح ﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي صورة لا روح فيها وفي الحديث :"إن أحدكم يجمع خلقه" أي : يحرز ويقر مادة خلقه "في بطن أمه" أي : في رحمها من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء "أربعين يوماً".
روي : عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها تنشر في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعرة فتمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم فذاك جمعها "ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح" وهذا يدل على أن التصوير يكون في الأربعين الثاني لكن المراد تقدير تصويرها لأن التصوير قبل المضغة لا يتحقق عادة "ويؤمر بأربع كلمات" يعني يؤمر الملك بكتابة أربع من القضايا وكل قضية سميت كلمة "بكتب رزقه وأجله" أي : مدة حياته "وعمله وشقي" وهو من وجبت له النار "أو سعيد" وهو من وجبت له الجنة قدم ذكر شقي لأن أكثر الناس كذا ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم بذلك أمر البعث والنشور فإن من قدر على خلق البشر أولاً من تراب لم يشم رائحة الحياة قط فهو قادر على إعادته.
بعث إنسان كرنشد عيان