ومنها أنه لو كان للطالب الصادق والمريد الحاذق شيخ يقتدي به وله شأن مع الله ثم استعد لخدمة شيخ كامل هو أهدى إلى الله منه وجب عليه اتباعه والتمسك بذيل إرادته حتى يتم أمره ولو تجدد له في أثناء السلوك هذا الاستعداد لشيخ آخر أكمل من الأول والثاني وهلم جراً يجب عليه اتباعه إلى أن يظفر بالمقصود الحقيقي وهو الوصول إلى الحضرة بلا اتصال ولا انفصال.
ومنها أن أهل الحسبان والعزة يحسبون أنهم لو جاهدوا أنفسهم على ما دلهم بالعقل بغير هدى من الله أي بغير متابعة الأنبياء أنهم يهتدون إلى الله ولا يعلمون أن من يجاهد نفسه في عبودية الله بدلالة العقل دون متابعة الأنبياء هو متابع هواه ولا يتخلص
٤١٢
أحد من أسر الهوى بمجرد العقل فلا تكون عبادته مقبولة إذ هي مشوبة بالهوى ولا يهتدي أحد إلى الله بغير هدي من الله كما أن نبينا عليه السلام مع كمال قدره في النبوة والرسالة احتاج في الاهتداء إلى متابعة الأنبياء كما قال :﴿أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام : ٩٠) ولهذا السر بعثت الأنبياء واحتاج المريد للشيخ المهتدي إلى الله بهدي من الله وهو المتابعة.
ومنها أن الظالمين هم الذين وضعوا متابعة الهوى في موضع متابعة الأنبياء وطلبوا الهداية من غير موضعها فأهل الهوى ظالمون.
قال بعضهم : للإنسان مع هواه ثلاث أحوال : الأولى أن يغلبه الهوى فيتملكه كما قال تعالى :﴿أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ﴾ (الجاثية : ٢٣).
والثانية : أن يغالبه فيقهر هواه مرة ويقهره هواه أخرى وإياه قصد بمدح المجاهدين وعناه النبي عليه السلام بقوله عليه السلام :"جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم" والثالثة : أن يغلب هواه كالأنبياء عليهم السلام وصفوة الأولياء قدس الله أسرارهم وهذا المعنى قصده تعالى بقوله :﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ (النازعات : ٤٠) وقصده النبي عليه السلام بقوله :"ما من أحد إلا وله شيطان وإن الله قد أعانني على شيطاني حتى ملكته" فإن الشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجود الهوى فيه.
وينبغي للعاقل أن يكون من أهل الهدى لا من أهل الهوى وإذا عرض له أمران فلم يدر أيهما أصوب فعليه بما يكرهه لا بما يهواه ففي حمل النفس على ما تكرهه مجاهدة وأكثر الخير في الكراهية والعمل بما أشار إليه العقل السليم واللب الخالص.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
هوا وهوس را نماند ستيز
ون بيند سر نه عقل تيز
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٠
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ التوصيل مبالغة الوصل وحقيقة الوصل رفع الحائل بين الشيئين أي أكثرنا لقريش القول موصولاً بعضه ببعض بأن أنزلنا عليهم القرآن آية بعد آية وسورة بعد سورة حسبما تقتضيه الحكمة أي ليتصل التذكير ويكون أدعى لهم ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ فيؤمنون ويطيعون أو تابعنا لهم المواعظ والزواجر وبينا لهم ما أهلكنا من القرون قرناً بعد قرن فأخبرناهم أنا أهلكنا قوم نوح بكذا وقوم هود بكذا وقوم صالح بكذا لعلهم يتعظون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى توصيل القول في الظاهر بتفهيم المعنى في الباطن أي فهمناهم معنى القرآن لعلهم يتذكرون عهد الميثاق إذ آمنوا بجواب قولهم : بلى وأقروا بالتوحيد ويجددون الإيمان عند سماع القرآن.
﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ﴾ مبتدأ وهم مؤمنو أهل الكتاب ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ أي من قبل إيتاء القرآن ﴿هُم بِه يُؤْمِنُونَ﴾ أي بالقرآن والجملة خبر المبتدأ ثم بين ما أوجب إيمانهم به بقوله.
﴿وَإِذَا يُتْلَى﴾ أي القرآن ﴿عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ﴾ أي : بأنه كلام الله تعالى ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ﴾ أي الحق الذي كنا نعرف حقيقته.
وبالفارسية (راست ودرست است فرود آمدن بنزديك آفريدكارما) ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ﴾ أي : من قبل نزوله ﴿مُسْلِمِينَ﴾ بيان لكون إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وإنما هو أمر متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٣
﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من النعوت.
﴿يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم﴾ ثوابهم في الآخرة.
٤١٣
﴿مَّرَّتَيْنِ﴾ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن وقد سبق معنى المرة في سورة طه عند قوله تعالى : و﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ (طه : ٣٧) ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين والعمل بالشريعتين.


الصفحة التالية
Icon