ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسبب الجفاء وسوء المعاملة ويعيناه على البر.
فمن البر وهما حيان أن ينفق عليهما ويمتثل أمرهما في الأمور المشروعة ويجامل في معاملتهما.
ومن البر بعد موتهما التصدق لهما وزيارة قبرهما في كل جمعة والدعاء لهما في أدبار الصلاة وتنفيذ عهودهما ووصاياهما ونحو ذلك.
وفي "التأويلات" :﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ يشير إلى تعظيم الحق تعالى وعظم شأنه وعزة الأنبياء وإعزازهم وعرفان قدر المشايخ وإكرامهم لأن الأمر برعاية حق الوالدين لمعنيين أحدهما أنهما كانا سبب وجود الولد والثاني أن لهما حق التربية فكلا المعنيين في إنعام الحق تعالى على العباد حاصل بأعظم وجه وأجل حق منهما لأن حقهما كان مشوباً بحظ نفسهما وحق الحق تعالى منزه عن الشوب وإنهما وإن كانا سبب وجود الولد لم يكونا مستقلين بالسببية بغير الحق تعالى وإرادته لأنهما كانا في السببية محتاجين إلى مشيئته وإرادته بأن يجعلهما سبباً لوجود الولد فإن الولد لا يحصل بمجرد تسببهما بالنكاح بل يحصل بموهبة الله تعالى كما قال تعالى :﴿يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ﴾ (الشورى : ٤٩ الآية فالسبب الحقيقي في إيجاد الولد هو الله تعالى فإن شاء يوجده بواسطة تسبب الوالدين وإن شاء بغير تسببهما كإيجاد آدم عليه السلام وأما التربية فنسبتها إلى الله تعالى حقيقة فإنه رب كل شيء ومربيه وإلى الوالدين مجازيه لأن صورة التربية إليهما وحقيقة التربية إلى الله تعالى كما ربى نطف الولد في الرحم حتى جعله علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كساه اللحم ثم أنشأه خلقاً آخر فالله تبارك وتعالى أعظم قدراً في رعاية حقوقه بالعبودية من رعاية حق الوالدين لإحسان وإن الواجب على العبد أن يخرج من عهدة حق العبودية بالإخلاص أولاً ثم يحسن بالوالدين كما قال تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا﴾ (الإسراء : ٢٣) وأما النبي والشيخ فكانا سبب الولادة الثانية بإلقاء نطفة النبوة والولاية في رحم قلب الأمة والمريد وتربيتها إلى أن يولد الولد عن رحم القلب في عالم الملكوت كما أخبر النبي عليه السلام رواية عن عيسى عليه السلام أنه قال :"لن يلج ملكوت السموات والأرض إلا من يولد مرتين" وكانا سبب ولادته في عالم الأرواح وأعلى عليين القرب والولدان كانا سبب ولادته في عالم الأشباح وأسفل سافلين البعد ولهذا السر كان يقول النبي صلى الله عليه وسلّم "إنما أنا لكم كالوالد لولده" وقد كانت أزواجه أمهات للأمة وقد قال عليه السلام :"الشيخ في قومه كالنبي في أمته" ولما كان الله تعالى في الإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصه به قبل وبعد أحق وأولى برعاية حقوقه عن والديه قال تعالى :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤٨
﴿وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَآ﴾ وفيه إشارة إلى أن المريد الصادق والطالب العاشق إذا تمسك بذيل إرادة شيخ كامل ودليل واصل بصدق الإرادة وعشق الطلب بعد خروجه عن الدنيا بتركها بالكلية عن جاهها ومالها وقد سعى بقدر الوسع في قطع تعلقات تمنعه
٤٥١
عن السير إلى الله متجهاً إلى الحضرة بعزيمة كعزيمة الرجال فإن كان له الولدان وهما بمعزل عما يهيجه من الصدق والمحبة فهما بجهلهما عن حال الولد يمنعان عن صحبة الشيخ وطلب الحق بالإعراض ويقبلان به إلى الدنيا ويرغبانه في طلب جاهها ومالها ويحثان على التزويج في غير أوانه فالواجب على المريد أن لا يطيعهما في شيء من ذلك فإن ذلك بالكلية طاغوت وقته وعليه أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ليستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها وهما يجاهدانه على أن يشرك بالله لجهلهما بحاله وحال أنفسهما وأنه يريد أن يخرج عن عهدة العبودية الخالصة لربه كما قضى ربه أن لا يعبد إلا إياه ولا يعبد ما دونه من الدنيا والآخرة وما فيهما وما يعلمان أنهما من عبدة الهوى وأنهما يدعوانه إلى عبادة غير الله فالواجب عليه أن لا يطيعهما في ذلك ولكن عليه أن يردهما باللطف ولا يزجرهما بالعنف إلى أن يخرج عن عهدة ما قضى ربه من العبودية بالإخلاص ثم الواجب عليه أن يحسن إليهما ويسمع كلامهما ويطيعهما فيما لا يقطعه عن الله على وفق أمره ثم أوعد الجميع بالمرجع إليه فقال :﴿إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم﴾ أيها الولد والولدان ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من العبادة الخالصة ومن عبادة الهوى على لسان جزائكم ليقول لكم : إن مرجع عبدة الهوى الهاوية.
﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ بمحبة الحق طلبوه بأن ﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ أي أعمالاً تصلح للسير إلى الله والوصول إلى حضرة جلاله ﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ﴾ أي نجعل مدخلهم مقام الأنبياء والأولياء بجذبات العناية تفهم إن شاء الله تعالى وتؤمن به.