جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤٨
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ مبتدأ باعتبار مضمونه أي وبعض الناس والخبر قوله :﴿مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ﴾ أي في شأنه تعالى بأن عذبهم الكفرة على الإيمان وهو مجهول آذى يؤذي أذى وأذية ولا تقل إيذاء كما في "القاموس" والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر إما في نفسه أو في جسمه أو في قنياته دنيوياً كان أو أخروياً ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ أي ما يصيبه من أذيتهم والفتنة الامتحان والاختبار تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتظهر جودته من رداءته وأطلقت على المحنة لأنها سبب نقادة القلب ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ في الآخرة في الشدة والهوى ويستولي عليه خوف البشرية إذ من لم يكن في حماية خوف الله وخشيته يفترسه خوف الحق فيساوي بين العذابين فيخاف العاجل الذي هو ساعة ويهمل الآجل الذي هو باق لا ينقطع فيرتد عن الدين ولو علم شدة عذاب الله وأن لا قدر لعذاب الناس عند عذابه تعالى لما ارتد ولو قطع إرباً إرباً ولما خاف من الناس ومن عذابهم وفي الحديث :"من خاف الله خوّف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله يخوفّه من كل شيء".
وقال بعضهم : جعل فتنة الناس في الصرف عن الإيمان كعذاب الله في الصرف عن الكفر.
يعني :(ترك إيمان كند از خوف عذاب خلق نانكه ترك كفرى بايدكرد از خوف خداي تعالى).
﴿وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ أي فتح وغنيمة للمؤمنين فالآية مدنية.
﴿لَيَقُولُنَّ﴾ بضم اللام نظراً إلى معنى من كما أن الإفراد فيما سبق بالنظر إلى لفظها.
﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ أي : متابعين لكم في الدين فأشركونا في المغنم وهم ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه
٤٥٢
من المسلمين فرد عليهم ذلك بقوله :﴿أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَـالَمِينَ﴾ أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الإخلاص والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة.
وبالفارسية (آيانيست خداي تعالى داناتر از همه دانايان بآنه در سينه عالميانست از صفاي إخلاص وكدورت نفاق).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٢
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ بالإخلاص ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ﴾ سواء كان نفاقهم بأذية الكفرة أو لا أي ليجزينهم على الإيمان والنفاق فإن المراد تعلق علمه تعالى بالامتحان تعلقاً حالياً يبتنى عليه الجزاء كما سبق فجوهر الإيمان والنفاق المودع في القلب إنما يظهر بالصبر أو بالتزلزل عند البلاء والمحنة كما أن عيار النقدين يظهر بالنار.
بشكل وهيآت إنسان زره مروزنهار
توان بصبر وتحمل شاناخت جوهر مرد
اكرنه اك بودازبلانخواهد جست
وكردر أصل بود اك صبر خواهد كرد
وفي الآية تنبيه لكل مسلم أن يصبر على الأذى في الله.
وحقيقة الإيمان نور إذا دخل قلب المؤمن لا تخرجه أذية الخلق بل يزيد بالصبر على أذاهم والتوكل على الله فإنه نور حقيقي أصلي ذاته لا يتكدر بالعوارض كنور الشمس والقمر فإنهما إذا طلعا يزداد نورهما بالارتفاع ولا يقدر أحد أن يطفىء نورهما وكنور الحجر الشفاف المضيء بالليل فإنه لا يقبل الانطفاء مثل الشمعة لأن نوره أصلي ونور الشمعة عارضي ثم إن في المحن والأذى تفاوتاً فمن كانت محنته بموت قريب من الناس أو فقد حبيب من الخلق أو نحوه فحقير قدره وكثير من الناس مثله ومن كان محنته وفي الله فعزيز قدره وقليل مثله وقد كانت كفار مكة يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام بأنواع الأذى فيصبر وقد قال :"ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" أي ما صفى نبي مثل ما صفيت لأن الأذى سبب لصفوة الباطن وبقدر الوقوف في البلاء تظهر جواهر الرجال وتصفو من الكدر مرآئي قلوبهم ألا ترى إلى أيوب عليه السلام حيث خلص له جوهر نعم العبدية عن معدن الإنسانية مدة أيام البلاء والصبر عليه وكذا كانوا يؤذون الأصحاب رضي الله عنهم تؤذي كل قبيلة من أسلم منها وتعذبه وتفتنه عن دينه وذلك بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل ومن يتابعه يحرض على الأذى وكان إذا سمع بأن رجلاً أسلم له شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له : ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجراً قال : والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفاً حرّض على أذاه حتى إن بعض الضعفاء فتن عن دينه ورجع إلى الشرك نعوذ بالله تعالى وكان بلال رضي الله عنه ممن يعذب في الله ولا يقول إلا : أحد أحد أي الله لا شريك له وهكذا الأقوياء من أهل السعادة ثبتوا على دينهم واختاروا عذاب الدنيا وفضوحها على عذاب الآخرة وفضوحها فإن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا أضعافاً كثيرة ويدل عليه النار فإنها جزء من الأجزاء السبعين لنار الآخرة وهي بهذه الحرارة في الدنيا مع ما غسلت في بعض أنهار الجنة.


الصفحة التالية
Icon