وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ بأن يرى من نفسه بأن له مع الله حالاً أو وقتاً أو كشفاً أو مشاهدة ولم يكن له من ذلك شيء وقالوا إذا فعلوا فاحشة : وجدنا عليها آباءنا به يشير إلى أن الإباحية وأكثر مدعي زماننا هذا إذا صدر منهم شيء على خلاف السنة والشريعة يقولون : إنا وجدنا مشايخنا عليه والله أمرنا بهذا أي مسلم لنا من الله هذه الحركات لمكانة قربنا إلى الله وقوة ولايتنا فإنها لا تضر بل تنفعنا وتفيد.
﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾ أي : بالشريعة وطريقة المشايخ وسيرتهم لما جاء ﴿أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ﴾ النفس ﴿مَثْوًى﴾ محبس ﴿لِّلْكَـافِرِينَ﴾ أي : لكافري نعمة الدين والإسلام والشريعة والطريقة بما يفترون وبما يدعون بلا معنى القيام به كذابين في دعواهم انتهى.
قال الحافظ :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٠
مدعى خواست كه آيد بتماشا كه راز
دست غيب آمد وبرسينه نا محرم زد
٤٩٥
فالمدعى أجنبي عن الدخول في حرم المعنى كما أن الأجنبي ممنوع عن الدخول في حرم السلطان وقال الكمال الخجندي :
مدعى نيست محروم دريار
خادم كعبه بولهب نبود
فالواجب الاجتناب عن الدعوى والكذب وغيرهما من صفات النفس واكتساب المعنى والصدق ونحوهما من أوصاف القلب.
قال الحافظ :
طريق صدق بياموز از آب صافى دل
براستي طلب ازاد كي وسرو من
حكي : عن إبراهيم الخواص رحمه الله أنه كان إذا أراد سفراً لم يعلم أحداً ولم يذكره وإنما يأخذ ركوته ويمشي قال حامد الأسوار : فبينما نحن معه في مسجده تناول ركوته ومشى فاتبعته فلما وافينا القادسية قال لي : يا حامد إلى أين؟ قلت : يا سيدي خرجت لخروجك قال : أنا أريد مكة إن شاء الله تعالى قلت : وأنا أريد إن شاء الله مكة فلما كان بعد أيام إذا بشاب قد انضم إلينا فمشى معنا يوماً وليلة لا يسجد تعالى سجدة فعرفت إبراهيم فقلت : إن هذا الغلام لا يصلي فجلس وقال : يا غلام مالك لا تصلي والصلاة أوجب عليك من الحج فقال : يا شيخ ما عليّ صلاة قال : ألست مسلماً؟ قال : لا قال : فأي شيء أنت؟ قال : نصراني ولكن إشارتي في النصرانية إلى التوكل وادعت نفسي أنها قد أحكمت حال التوكل فلم أصدقها فيما ادعت حتى أخرجتها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود أثير ساكني وامتحن خاطري فقام إبراهيم ومشى وقال : دعه يكون معك فلم يزل يسايرنا حتى وافينا بطن مرو فقام إبراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له : ما اسمك؟ قال : عبد المسيح فقال : يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعني الحرم وقد حرم الله على أمثالك الدخول إليه قال الله تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا﴾ (التوبة : ٢٨) والذي أردت أن تستكشف من نفسك قد بان لك فاحذر أن تدخل مكة فإن رأيناك بمكة أنكرنا عليك قال حامد : فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا إلى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات إذا به قد أقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح الوجوه حتى وقف علينا فأكب على إبراهيم يقبل رأسه فقال له : ما الحال يا عبد المسيح؟ فقال له : هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له إبراهيم : حدثني حديثك قال : جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج فقمت وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم فساعة وقعت عيني عى الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى دين الإسلام فأسلمت واغتسلت وأحرمت فها أنا أطلبك يومي فالتفت إلى إبراهيم وقال : يا حامد انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام ثم صحبنا حتى مات بين الفقراء رحمه الله تعالى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٠
يقول الفقير : أصلحه الله القدير في هذه الحكاية إشارات.
منها كما أن حرم الكعبة لا يدخله مشرك متلوث بلوث الشرك كذلك حرم القلب لا يدخله مدع متلوث بلوث الدعوى.
ومنها أن النصراني المذكور صحب إبراهيم أياماً في طريق الصورة فلم يضيعه الله حيث هداه إلى الصحبة به في طريق المعنى.
ومنها أن صدقه في طريقه أدّاه إلى أن آمن بالله وكفر بالباطل.
ومنها أن من كان نظره صحيحاً فإذا شاهد شيئاً من شواهد الحق يستدل به على الحق ولا يكذب بآيات
٤٩٦
ربه كما وقع للنصراني المذكور حين رأى الكعبة التي هي صورة سر الذات وكما وقع لعبد الله بن سلام فإنه حين رأى النبي عليه السلام آمن وقال : عرفت أنه ليس بوجه كذاب نسأل الله حقيقة الصدق والإخلاص والتمتع بثمرات أهل الاختصاص.
﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا﴾ الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو أي جدوا وبذلوا وسعهم في شأننا وحقنا ولوجهنا خالصاً.
وأطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعداء الظاهرة والباطنة أما الأول فكجهاد الكفار المحاربين وأما الثاني فكجهاد النفس والشيطان وفي الحديث :"جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم" ويكون الجهاد باليد واللسان كما قال عليه السلام :"جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم" أي بما يسوءهم من الكلام كالهجر ونحوه.


الصفحة التالية
Icon