قال ابن عطاء : المجاهدة صدق الافتقار إلى الله بالانقطاع عن كل ما سواه وقال عبد الله بن المبارك المجاهدة علم أدب الخدمة فإن أدب الخدمة أعز من الخدمة.
وفي "الكواشي" : المجاهدة غض البصر وحفظ اللسان وخطرات القلب ويجمعها الخروج عن العادات البشرية انتهى فيدخل فيها الغرض والقصد ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ الهداية الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب.
والسبل جمع سبيل وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك ويلزمه السهولة ولهذا قال الإمام الراغب : السبيل الطريق الذي فيه سهولة انتهى.
وإنما جمع لأن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق والمعنى سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المهاجرين والأنصار أي والذين جاهدوا المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة والرضوان.
وقال بعضهم : معنى الهداية ههنا التثبيت عليها والزيادة فيها فإنه تعالى يزيد المجاهدين هداية ما يزيد الكافرين ضلالة فالمعنى لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً لسلوكها كقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ (محمد : ١٧) وفي الحديث :"من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم" وفي الحديث :"من أخلص أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٠
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة ثم قيل : مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم كذا من لزم السنة في الدنيا سلم.
ويقال : والذين جاهدوا بالتوبة لنهدينهم إلى الإخلاص.
والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم إلى طريق العمل به.
والذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى الوصول إلى محل الرضوان.
والذين جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والإنس بنا والمشاهدة لنا.
والذين أشغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى أسرارهم اللطائف والعجب ممن يعجز عن ظاهره ويطمع في باطنه ومن لم يكن أوائل حاله المجاهدة كانت أوقاته موصولة بالأماني ويكون حظه البعد من حيث يأمل القرب.
والحاصل أنه بقدر الجد تكتسب المعالي فمن جاهد بالشريعة وصل إلى الجنة ومن جاهد بالطريقة وصل إلى الهدى ومن جاهد بالمعرفة والانفصال عما سوى الله وصل إلى العين واللقاء.
ومن تقدمت مجاهدته على مشاهدته كما دلت الآية عليه صار مريداً مراداً وسالكاً مجذوباً وهو أعلى درجة ممن تقدمت مشاهدته على مجاهدته وصار مراداً مريداً ومجذوباً سالكاً لأن سلوكه على وفق العادة الإلهية ولأنه متمكن
٤٩٧
هاضم بخلاف الثاني فإنه متلون مغلوب وربما تكون مفاجأة الكشف من غير أن يكون المحل متهيئاً له سبباً للإلحاد والجنون والعياذ بالله تعالى.
وفي التأويلات :﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ أي سبيل وجداننا كما قال :"ألا من طلبني وجدني ومن تقرب إليّ شراً تقربت إليه ذراعاً".
قال الكاشفي : در ترجمه بعضي از كلمات زبور آمده :
أنا المطلوب فاطلبني تجدني
أنا المقصود فاطلبني تجدني
اكر در جست وجوى من شتابد
مراد خود بزودى باز يابد
وفي "المثنوي" :
كركران وكر شتابنده بود
آنكه جوينده است يابنده بود
در طلب زن دائما توهر دودست
كه طلب درراه نيكو رهبرست
قالت المشايخ : المجاهدات تورث المشاهدات ولو قال قائل للبراهمة والفلاسفة أنهم يجاهدون النفس حق جهادها ولا تورث لهم المشاهدة قلنا : لأنهم قاموا بالمجاهدات فجاهدوا وتركوا الشرط الأعظم منها وهو قوله : فينا أي خالصاً لنا وهم جاهدوا في الهوى والدنيا والخلق والرياء والسمعة والشهرة وطلب الرياسة والعلو في الأرض والتكبر على خلق الله فأما من جاهد في الله جاهد أولاً بترك المحرمات ثم بترك الشبهات ثم بترك الفضلات ثم يقطع التعلقات تزكية للنفس ثم بالتنقي عن شواغل القلب على جميع الأوقات وتخليته عن الأوصاف المذمومات تصفية للقلب ثم بترك الالتفات إلى الكونين وقطع الطمع عن الدارين تحلية للروح فالذين جاهدوا في قطع النظر عن الأغيار بالانقطاع والانفصال لنهدينهم سبلنا بالوصول والوصال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٠
واعلم أن الهداية على نوعين هداية تتعلق بالمواهب وهداية تتعلق بالمكاسب فالتي تتعلق بالمواهب فمن هبة الله وهي سابقة والتي تتعلق بالمكاسب فمن كسب العبد وهي مسبوقة ففي قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا﴾ إشارة إلى أن الهداية الموهبية سابقة على جهد العبد وجهده ثمرة ذلك البذر فلو لم يكن بذر الهداية الموهبية مزروعاً بنظر العناية في أرض طينة العبد لما نبتت فيها خضرة الجهد ولو لم يكن المزروع مربى جهد العبد لما أثمر بثمار الهداية المكتسبية.
قال الحافظ :
قومي بجد وجهد نهادند وصل دوست
قومى دكر حواله بتقدير ميكنند


الصفحة التالية
Icon