﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا﴾ خلقنا من بعدهم أي بعد هلاك القرون المذكورة وهم عاد على الأشهر.
﴿قُرُونًا ءَاخَرِينَ﴾ هم قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام إظهاراً للقدرة وليعلم كل أمة استغناءنا عنهم وأنهم إن قبلوا دعوة الأنبياء وتابعوا الرسل تعود فائدة استسلامهم وانقيادهم وقيامهم بالطاعات إليهم.
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ من مزيدة للاستغراق أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم.
﴿وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ﴾ ذلك الأجل بساعة وطرفة عين بل تموت وتهلك عندما حد لها من الزمان.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ عطف على أنشأنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متأخر ومتراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعاً بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل : ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به.
﴿تَتْرَا﴾ مصدر من المواترة وهي التعاقب في موضع الحال أي متواترين واحداً بعد واحد.
وبالفارسية :(ي دري يعني يكي درعقب ديكري).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٨٣
قال في "الإرشاد" : وغيره من الوتر وهو الفرد والتاء بدل من الواو والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة ﴿كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا﴾ المخصوص أي جاء بالبينات وللتبليغ ﴿كَذَّبُوهُ﴾ نسبوا إليه الكذب يعني أكثرهم بدليل قوله :﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ﴾ (الصافات : ٧١) كما في "بحر العلوم".
قال الكاشفي :(تكذيب كردنداورا وآنه كفت ازتوحيد ونبوت وبعث وحشر دروغ نداشتتد وبتقليد دران ولزوم عادات ناسنديده ازدولت تصديق محروم ماندند) ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم﴾ أي بعض القرون ﴿بَعْضًا﴾ في الإهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض حسبما تبع بعضهم بعضاً في مباشرة الأسباب التي هي الكفر والتكذيب وسائر المعاصي.
قال الكاشفي :(يعني هي كدام را مهلت نداديم وآخرين را ون أولين معاقب كردانيم) ﴿وَجَعَلْنَـاهُمْ﴾ بعد إهلاكهم ﴿أَحَادِيثَ﴾ لمن بعدهم، أي لم يبق عين ولا أثر إلا حكايات يسمر بها ويتعجب منها ويعتبر بها المعتبرون من أهل السعادة وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهياً وتعجباً وهو المراد ههنا كأعاجيب جمع أعجوبة وهي ما يتعجب منها.
قال الكاشفي :(وساختيم آنراسخنان يعني عقوبت خلق كردانيديم كه دائم عذاب ايشانرا ياد كنند وبدان مثل زنند خلاصة شخن آنكه ازايشان غير حكايتي باقي نماندكه مردم إفسانه وار ميكويند واكر سخن نيكوى آيشان بماندى به بودي بزركي كفته است).
تفنى وتبقى عنك أحدوثة
فاجهد بأن تحسن أحدوثتك
٨٤
(ودر ترجمة آن فرموده اند).
س ازتو اين همه افسانها كه مي خوانند
دران بكوش كه نيكو بماند افسانه
يقول الفقير : في البيت العربي دلالة على أن الأحدوثة تقال على الخير والشر وهو خلاف، ما قال الأخفش من أنه لا يقال في الخير : جعلتهم أحاديث وأحدوثة وإنما يقال : جعلت فلاناً حديثاً انتهى.
ويمكن أن يقال في البيت الأحدوثة الثانية وقعت بطريق المشاكلة ﴿فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (س دوري باد از رحمت حق مر كروهي راكه نمى كروند بأنبياء وتصديق ايشان نمى كنند) وفي أكثر التفاسير بعدوا بعداً أي هلكوا واللام لبيان من قيل له : بعداً وخصهم بالنكرة لأن القرون المذكورة منكرة بخلاف ما تقدم من قوله : فبعداً للقوم الظالمين حيث عرف بالألف واللام لأنه في حق قوم معنيين كما سبق.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٨٣
وفي الآية دلالة على أن عدم الإيمان سبب للهلاك والعذاب في النيران كما أن التصديق مدار للنجاة والتنعم في الجنان.
قال يعقوب عليه السلام للبشير : على أي دين تركت يوسف؟ قال : على الإسلام قال : الآن تمت النعمة على يعقوب وعلى آل يعقوب إذ لا نعمة فوق الإسلام وحيث لا يوجد فجميع النعم عدم وحيث يوجد فجميع النقم عدم.
وسأل رجل علياً رضي الله عنه هل رأيت ربك؟ فقال : أفأعبد ما لا أرى فقال : كيف تراه قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلب بحقائق الإيمان.
وعنه : من عرف ربه جل ومن عرف نفسه ذل، يعني : عرفان الرب يعطي جلالة في المعنى وعرفان النفس يعطي ذلة في الصورة فالكفار وسائر أهل الظلم عدوا أنفسهم أعزة فذلوا صورة ومعنى حيث بعدوا من الله تعالى في الباطن وهلكوا مع الهالكين في الظاهر والمؤمنون وسائر العدول عدوا أنفسهم أذلة فعزوا صورة ومعنى حيث تقربوا إلى الله تعالى في الباطن ونجوا من الهلاك في الظاهر فجميع التنزل إنما يأتي من جهة الجهل بالرب والنفس.
رونق كار خسان كاسد شود
همو ميوة تازة زوفاسد شود
فعلى العاقل الانقياد لأهل الحق فإن جمع الفيض إنما يحصل من مشرب الانقياد وبالانقياد يحصل العرفان التام وشهود رب العباد.
اللهم اعصمنا من العناد أثبتنا على الانقياد.


الصفحة التالية
Icon