قال الراغب : جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع تشبيهاً بجؤار الوحشيات كالظباء ونحوها وتخصيص المترفين بأخذ العذاب ومفاجأة الجؤار مع عمومه لغيرهم أيضاً لغاية ظهور انعكاس حالهم وأيضاً إذا كان لقاؤهم هذه الحالة الفظيعة ثابتاً واقعاً فما ظنك بحال الأصاغر والخدم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٠
وقال بعضهم : المراد بالمترفين المعذبين أبو جهل وأصحابه الذين قتلوا ببدر والذين هم يجأرون أهل مكة فيكون الضمير راجعاً إلى ما رجع إليه ضمير مترفيهم وهم الكفرة مطلقاً.
﴿لا تَجْـاَرُوا الْيَوْمَ﴾ على إضمار القول أي فيقال لهم وتخصيص اليوم بالذكر وهو يوم القيامة لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار.
﴿إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ﴾ أي لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما دهمكم.
﴿قَدْ كَانَتْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ في الدنيا
٩٢
لتنتفعوا بها ﴿فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ الأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجع على عقبه إذا انثنى راجعاً والنكوص الرجوع القهقرى أي معرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلاً عن تصديقها والعمل بها.
﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أي حال كونكم مكذبين بكتابي الذي عبر عنه بآياتي على تضمين الاستكبار معنى التكذيب ﴿سَـامِرًا﴾ حال بعد حال وهو اسم جمع كالحاضر.
قال الراغب : قيل : معناه سماراً فوضع الواحد موضع الجمع وقيل بل السامر الليل المظلم والسمر سواد الليل ومنه قيل : للحديث بالليل سمر وسمر فلان إذا تحدث ليلاً وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل ويسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً.
﴿تَهْجُرُونَ﴾ حال أخرى من الهجر بالفتح بمعنى الهذيان أو الترك أي تهذون في شأن القرآن وتتركونه وفيه ذم لمن يسمر في غير طاعة الله تعالى وكان عليه السلام يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها.
قال القرطبي : اتفق على كراهية الحديث بعدها لأن الصلوات حد كفرت خطايا الإنسان فينام على سلامة وقد ختم الحفظة صحيفته بالعبادة فإن سمر بعد ذلك فقد لغا وجعل خاتمتها اللغو والباطل.
وكان عمر رضي الله عنه لا يدع سامراً بعد العشاء ويقول : ارجعوا فعل الله يرزقكم صلاة أوتهجداً.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله السمر على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون في مذاكرة العلم فهو أفضل من النوم ويلحق به كل ما فيه خير وصلاح للناس فإنه كان سمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد العشاء في بيت أبي بكر رضي الله عنه ليلاً في الأمر الذي يكون من أمر المسلمين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٠
والثاني : أن يكون في أساطير الأولين والأحاديث الكذب والسخرية والضحك فهو مكروه.
والثالث : أن يتكلموا للمؤانسة ويجتنبوا الكذب وقول الباطل فلا بأس به والكف عنه أفضل للنهي الوارد فيه وإذا فعلوا ذلك ينبغي أن يكون رجوعهم إلى ذكر الله والتسبيح والاستغفار حتى يكون رجوعهم بالخير وكان عليه السلام إذا أراد القيام عن مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ثم يقول علمنيهن جبريل.
قال في "روضة الأخبار" : من قال ذلك قبل أن يقوم من مجلسه كفر الله ما كان في مجلسه ذلك كذا في الحديث انتهى.
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :"لا سمر إلا لمسافر أو لمصل" ومعنى ذلك أن المسافر يحتاج إلى ما يدفع عنه النوم للمشي فأبيح له ذلك وإن لم يكن فيه قربة وطاعة والمصلي إذا سمر ثم صلى يكون نومه على الصلاة وختم سمره بالطاعة.
فعلى العاقل أن يجتنب عن الفضول وعن كل ما يفضي إلى البعد عن حريم القبول وبقي عمره من تضيع الأوقات في اكتساب ما هو من الآفات.
قال الحافظ :
ما قصة سكندر وداراً بخوانده ايم
از ما يجز حكايت مهر ووفامرس
وقال بعضهم :
جزياد دوست هره كنم جمله ضايعست
جز سر شوق هره بكويم بطالتست
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٠
﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر أي
٩٣
أفعل الكفار ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول والإخبار عن الغيب أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به فضلاً عما فعلوا في شأنه من القبائح والتدبر إحضار القلب للفهم.
قال الراغب : التدبر التفكر في دبر الأمور ﴿أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاوَّلِينَ﴾ أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة قيل : للإضراب والانتقال عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر والهمزة لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا في الكفر والضلال يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة له تعالى لا يكاد يتسنى إنكارها وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟