﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾ إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر والهمزة لإنكار الوقوع أيضاً أي بل ألم يعرفوه عليه السلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد إلى غير ذلك من صفة الأنبياء.
﴿فَهُمْ لَه مُنكِرُونَ﴾ أي : جاهدون بنبوته فحيث انتفى عدم معرفتهم بشأنه عليه السلام ظهر بطلان إنكارهم لأنه مترتب عليه.
﴿أَمْ يَقُولُونَ بِه جِنَّةُ﴾ انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع أي بل أيقولون به جنون.
وبالفارسية (ياميكويند درو ديوكيست) مع أنه أرجح الناس عقلاً وأثقبهم ذهناً وأتقنهم رأياً وأوفرهم رزانة.
﴿بَلْ جَآءَهُم بِالْحَقِّ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول بل جاءهم الرسول بالصدق الثابت الذي لا ميل عنه ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٣
قال الكاشفي :(يعني إسلام يا سخن راست كه قرآنست).
﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ﴾ من حيث هو حق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار في موقع الإضمار.
﴿كَـارِهُونَ﴾ لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج وزاغوا عن الطريق الانهج وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة الباقين لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق المبين.
يقول الفقير : لعل وجه التخصيص أن أكثر القوم وهم الباقون على الكفر كارهون للحق ولذا أصروا وأقلهم وهم المختارون للإيمان غير كارهين ولذا أقروا فإن الحكمة الإلهية جارية على أن قوم كل نبي أكثرهم معاند كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ﴾ (الصافات : ٧١) قال الحافظ :
كوهر اك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلي لؤلؤ ومرجان نشود
فالأقل وهم المستعدون كالجواهر النفيسة والأزهار الطيبة والأكثر وهم غير المستعدين كالأحجار الخسيسة والنباتات اليابسة.
واعلم أن الكفار كرهوا الحق المحبوب المرغوب طبعاً وعقلاً ولو تركوا الطبع والعقل واتبعوا الشرع وأحبوه لكان خيراً لهم في الدنيا والآخرة.
إن قلت هل يعتد في الآخرة بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرهاً؟.
قلت : لا فإن الله تعالى ينظر إلى السرائر ولا يرضى إلا الأخلاص ولهذا قال عليه السلام :"إنما الأعمال بالنيات" وقال :"أخلص يكفك القليل من العمل".
عبادت باخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
اكرجز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
٩٤
ومن لطائف المولى الجامي :
تهيست سبحة زاهد زكوهر اخلاص
هزار بار من آثرا شمرداه ام يك يك
ودلت الآية على أن ما هو مكروه عند الإنسان لا يلزم أن يكون مكرهاً عند الرحمن والله تعالى لا يحمل العباد إلا على نعيم الابد وقد علم الحق تعالى قلة نهوض العباد إلى معاملته التي لا مصلحة لهم في الدارين إلا بها فأوجب عليهم وجود طاعته ورتب عليها وجود ثوابه وعقوبته فساقهم إليها بسلاسل الإيجاب إذ ليس عندهم من المروءة ما يردهم إليه بلا علة هذا حال أكثر الخلق بخلاف أهل المروءة والصفا وذوي المحبة والوفا الذين لم يزدهم التكليف إلا شرفاً في أفعالهم وزيادة في نوالهم ولو لم يكن وجوب لقاموا للحق بحق العبودية ورعوا ما يجب أن يراعى من حرمة الربوبية حتى أن منهم من يطلب لدخول الجنة فيأبى ذلك طلباً للقيام بالخدمة فتوضع في أعناقهم السلاسل من الذهب فيدخلون بها الجنة قيل : ولهذا يشير عليه السلام بقوله :"عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل" وفي الحديث إشارة أيضاً إلى أن بعض الكراهة قد يؤول إلى المحبة ألا ترى إلى أحوال بعض الأسارى فإنهم يدخلون دار الإسلام كرهاً ثم يهديهم الله تعالى فيؤمنون طوعاً فيساقون إلى الجنة بالسلاسل فالعبرة في كل شيء للخاتمة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٣
قال بعضهم : من طالع الثواب والعقاب فاسلم رغبة ورهبة فهو إنما أسلم كرهاً ومن طالع المثيب والمعاقب لا الثواب والعقاب فأسلم معرفة ومحبة فهو إنما أسلم طوعاً وهو الذي يعتد به عند أهل الله تعالى.
فعلى العاقل أن يتدبر القرآن فيخلص الإيمان ويصل إلى العرفان والإيقان بل إلى المشاهدة والعيان والله تعالى أرسل رسوله بالحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ﴾ الذي كرهوه ومن جملته ما جاء به عليه السلام من القرآن ﴿أَهْوَآءَهُمْ﴾ مشتهيات الكفرة بأن جاء القرآن موافقاً لمراداتهم فجعل موافقته اتباعاً على التوسع والمجاز.
﴿لَفَسَدَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ من الملائكة والإنس والجن وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية لأن مناط النظام قوام العالم ليس إلا الحق الذي من جملته الإسلام والتوحيد والعدل ونحو ذلك.