وفي "التأويلات النجمية" : أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده تنبيهاً لهم ﴿فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع لربهم ومضوا على العتو والاستكبار والاستكانة الخضوع والذلة والتضرع إظهار الضراعة أي الضعف والذلة ووزن استكان استفعل من الكون لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون كما قيل : استحال إذا انتقل من حال إلى حال أو افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه وصيغة المضارع في وما يتضرعون لرعاية الفواصل.
وفي "الإرشاد" : هو اعتراض مقرر لمضمون ما قبله : أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى :﴿حَتَّى إِذَآ﴾ (تاون) ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ هو عذاب الآخرة.
﴿إِذَا هُمْ﴾ (ناكاه ايشان).
﴿فِيهِ﴾ (دران عذاب) ﴿مُبْلِسُونَ﴾ متحيرون آيسون من كل خير أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رؤي منهم انقياد للحق وتوجه إلى الإسلام وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه في شيء وإنما هو نوع قنوع إلى أن يتم غرضه فحاله كما قيل : إذا جاع ضغا وإذا شبع طغا وأكثرهم مستمرون على ذلك إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون كقوله تعالى :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الروم : ١٢) وقوله تعالى :﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٧
قال عكرمة : هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربعمائة ألف سود وجوههم كالحة أنبابهم قد قلعت الرحمة من قلوبهم إذا بلغوه فتحه الله عليهم نسأل الله العافية من ذلك.
قال وهب بن منبه : كان يسرج في بيت المقدس ألف قنديل فكان يخرج من طور سيناء زيت مثل عنق البعير صاف يجري حتى ينصب في القناديل من غير أن تمسه الأيدي وكانت تنحدر نار من السماء بيضاء تسرج بها القناديل وكان القربان والسرج من ابني هارون شبر وشبير فأمر أن لا يسرجا بنار الدنيا فاستعجلا يوماً، فأسرجا بنار الدنيا فوقعت النار فأكلت ابني هارون فصرخ الصارخ إلى موسى عليه السلام فجاء يدعو ويقول : يا رب إن ابني هارون قد عملت مكانهما مني فأوحى الله إليه يا ابن عمران هكذا افعل بأوليائي إذا عصوني فكيف بأعدائي.
وخرج على سهل الصعلوكي من مستوقد حمام يهودي في طمر أسود من دخانه فقال : ألستم ترون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فقال سهل على البداهة إذا صرت إلى عذاب الله كانت هذه جنتك وإذا صرت إلى نعيم الله كانت هذه سجني فتعجبوا من كلامه فعلم منه أن عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا ومن عرف حقيقة الحال يقع في خوف المآل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجبريل :"ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط" قال :"ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار".
واعلم أن المجاهدات والرياضات عذاب للنفس والطبيعة لإذابة جوهرهما من حيث الهوى والشهوات وإرجاعهما إلى الفطرة الأصلية لكن لا بد مع ذلك من التضرع والبكاء وتعفير الوجوه بالتراب لأنه بالاعتماد على الكسب يصعب طريق الوصول وبالافتقار والذلة
٩٨
ينفتح باب القبول.
جز خضوع وبندكي واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبار
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره كابدت العبادة ثلاثين سنة فرأيت قائلاً يقول لي : يا أبا يزيد خزائنه مملوءة من العبادة إن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والافتقار فعلم منه أن العذاب لا ينقطع إلا بإفراد العبوديةتعالى والتواضع على وجه ليس فيه شائبة أنانية أصلاً نسأل الله سبحانه أن يكشف عنا ظلمة النفس وينورنا بنور الأنس والقدس إنه المسؤول في كل أمل والمأمول من كل عمل.
﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ﴾ خلق ﴿لَكُمُ﴾ لمنافعكم ﴿السَّمْعَ﴾ وهي قوة في الأذن بها تدرك الأصوات والفعل يقال له السمع أيضاً ويعبر تارة بالسمع عن الأذن وبالفارسية.
(كوش).
﴿وَالابْصَـارَ﴾ جمع بصر يقال للجارحة الناظرة وللقوة فيها.
وبالفارسية :(ديده) ﴿وَالافْـاِدَةَ﴾ جمع فؤاد : وبالفارسية (دل).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩٧
قال الراغب : هو كالقلب لكن يقال : فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد، أي التوقد يقال : فأدت اللحم شويته ولحم فئيد مشوي وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن أكثر المنافع الدينية والدنيوية متعلق بها ﴿قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ ما صلة لتأكيد القلة أي شكراً قليلاً تشكرون هذه النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر استعمالها فيما خلقت لأجله وأنتم تخلون بها إخلالاً عظيماً.
وفي "العيون" : لم تشكروه لا قليلاً ولا كثيراً.
يقول الفقير : وهذا لأن القلة ربما تستعمل في العدم وهو موافق لحال الكفار.
ثم في الآية إشارة إلى معاني ثلاثة.
إحداها : إظهار إنعامه العظيم وأفضاله الجسيم بهذه النعم الجليلة من السمع والأبصار والأفئدة.
وثانيها : مطالبة العباد بالشكر على هذه النعم.