﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ﴾ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي عندها البعث والنشور والنفخ نفخ الريح في الشيء والصور مثل قرن ينفخ فيه فيجعل الله ذلك سبباً لعود الأرواح إلى أجسادها.
﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ تنفعهم لزوال التراحم والتعاطف من فرط واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو لا أنساب يفتخرون بها والنسب القرابة بين اثنين فصاعداً أي اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسب بين الإخوة وبني الأعمام ﴿يَوْمَـاـاِذٍ﴾ كما بينهم اليوم ﴿وَلا يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي لا يسأل بعضهم
١٠٦
بعضاً فلا يقول له من أنت ومن أي قبيلة ونسب أنت ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه لشدة الهول فلا يتعارفون ولا يتساءلون كما أنه إذا عظم الأمر في الدنيا لم يتعرف الوالد لولده ولا يناقضه قوله تعالى :﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ (الصافات : ٥٠) لأن عدم التساؤل عند ابتداء النفخة الثانية قبل المحاسبة والتساؤل بعد ذلك وأيضاً يوم القيامة يوم طويل فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ففي موطن يشتد عليهم الهول والفزع بحيث يشغلهم عن التساؤل والتعارف فلا يفطنون لذلك وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون وتتعارفون.
وعن الشعبي : قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول :﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ﴾ فقال عليه السلام :"ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس حين يرمى إلى كل إنسان كتابه عند الموازين وعلى جسر جهنم" قال ابن مسعود رضي الله عنه : يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ ألا إن هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه فيفرح العبد يومئذٍ أن يثبت له حق على والده وولده أو زوجته وأخيه فلا أنساب بينهم يومئذٍ.
وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه أن يثبت له عليه شيء ثم تلا ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ الآية (عبس : ٣٤).
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه فإن تلك نسبة لا تنقطع إبداً وتلك النسبة المفتخر بها لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٠٤
قال الأصمعي : كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة فسمعت صوتاً حزيناً فتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن ظريف تعلق بأستار الكعبة وهو يقول : نامت العيون وغارت النجوم وأنت الملك الحي القيوم وقد غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حرسها وحجابها وبابك مفتوح للسائلين فها أنا سائلك ببابك مذنباً فقيراً مسكيناً أسيراً جئت أنتظر رحمتك يا أرحم الراحمين ثم أنشأ يقول :
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى مع القسم
قد نام وفدي حول البيت وانتبهوا
وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
أدعوك ربي ومولاي ومستندي
فارحم بكائي بحق البيت والحرم
أنت الغفور فجد لي منك مغفرة
أو اعف عني يا ذا الجود والنعم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو جرم
فمن يجود على العاصين بالكرم
ثم رفع رأسه نحو السماء وهو ينادي : يا إلهي وسيدي مولاي إن أطعتك فلك المنة علي وإن عصيتك فبجهلي فلك الحجة علي اللهم فبإظهار منتك علي وإثبات حجتك لديّ ارحمني وأغفر ذنوبي ولا تحرمني رؤية جدي قرة عيني وحبيبك وصفيك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلّم ثم أنشأ يقول :
ألا أيها المأمول في كل شدة
إليك شكوت الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي
فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي
فزادي قليل ما أراه مبلغي
على الزاد أبكي أم لبعد مسافتي
١٠٧
أتيت بأعمال قباح رديئة
وما في الورى خلق جني كجنايتي
فكان يكرر هذه الأبيات حتى سقط على الأرض مغشياً عليه فدنوت منه فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فوضعت رأسه في حجري وبكيت لبكائه بكاءً شديداً شفقة عليه فقطر من دموعي على وجهه فأفاق من غشيته وفتح عينه وقال : من الذي شغلني عن ذكر مولاي فقلت أنا الأصمعي يا سيدي ما هذا البكاء وما هذا الجزع وأنت من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة أليس الله يقول :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب : ٣٣) قال : فاستوى جالساً وقال يا أصمعي هيهات إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه وإن كان ملكاً قرشياً أما سمعت قوله تعالى :﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٠٤


الصفحة التالية
Icon