وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن نفخة العناية الربوبية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت أحد إلى أحد من أنسابه لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله بطلب الحق تعالى واستغراقه في بحر المحبة فلا يسأل بعضهم بعضاً عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم وإذا فارقوها كان لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن في طلب الحق يغنيه عن مطالبة الغير.
﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ موزونات حسناته من العقائد والأعمال أي فمن كان له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر عند الله فهو جمع موزون بمعنى العمل الذي لا وزن وخطر عند الله وباقي الكلام في هذا المقام سبق في تفسير سورة الأعراف.
﴿فأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مهروب ولما كان حرف من يصلح للواحد والجمع وحد على اللفظ وجمع على المعنى.
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ماله وزن وقدر عند الله تعالى وهم الكفار لقوله تعالى :﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا﴾ (الكهف : ١٠٥) ﴿فأولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾ ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها.
والخسر والخسران انتقاص رأس المال كما في "المفردات".
قال الكاشفي (س كروه آنندكه زيان كرده اند ازنفسهاي يعني سرماية عمر بباد غفلت برداند واستعدادات حصول كمال بطلب آرزوهاي نفس ومتابعت شهوات ضايع ساختند) ﴿فِى جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ﴾ بدل من صلة أو خبر ثان لأولئك.
قال في "التأويلات النجمية" : الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف ولاية الدجاجة وخروج الفروخ منها فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعدادها باقياً فإذا تصرف الدجاجة فيها فتغيرت عن حالها إلى حال الفروخية ثم انقطع تصرف الدجاجة عنها تفسد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالوا مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة وهذا معنى قوله :﴿فِى جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ﴾ أي في جهنم أنفسهم فلا يخرجون بالفروخية وليس من سنة الله إصلاح الاستعداد بعد إفساده.
قال الجامي :
آنراكه زمين كشد درون ون قارون
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٠٤
ني موسيش آورد برون هارون
فاسد شده راز روز كار وارون
لا يمكن أن يصلحه العطارون
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ تحرقها يقال : لفحته النار بحرها أحرقته كما في "القاموس" واللفح
١٠٨
كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً كما في "الإرشاد" وغيره وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء وأعظم ما يصان منها فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل.
﴿وَهُمْ فِيهَا كَـالِحُونَ﴾ من شدة الاحتراق.
والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية.
وعن مالك بن دينار كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن، وفي الحديث :"تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته" انتهى.
فيقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٠٤
﴿أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ في الدنيا ﴿فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ حينئذٍ.
﴿قَالُوا﴾ يا ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا﴾ أي ملكتنا ﴿شِقْوَتُنَا﴾ التي اقترفناها بسوء اختيارنا فصارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة.
قال القرطبي : وأحسن ما قيل في معناه غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما تؤديان إليها.
قال أبو تراب : الشقوة حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق.
﴿وَكُنَّا﴾ بسبب ذلك ﴿قَوْمًا ضَآلِّينَ﴾ عن الحق ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب وسائر المعاصي.
﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ﴾ متجاوزون الحد في الظلم لأنفسنا.
﴿قَالَ﴾ تعالى بطريق القهر :﴿اخْسَـاُوا فِيهَا﴾ اسكتوا في النار سكوت هوان فإنها ليست مقام سؤال وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته مستهيناً به فخسأ، أي انزجر.
﴿وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ أي : باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا فإنه لا يكون أبداً.
﴿إِنَّهُ﴾ تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن.
﴿كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى﴾ وهم المؤمنون.
﴿يَقُولُونَ﴾ في الدنيا ﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا﴾ صدقنا بك وبجميع ما جاء من عندك.
﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ ﴿وَارْحَمْنَا﴾ وأنعم علينا بنعمك التي من جملتها الفوز بالجنة والنجاة من النار.
﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ لأن رحمتك منبع كل رحمة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١١٠


الصفحة التالية
Icon