﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ مهزواً بهم أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم : ربنا إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم : ربنا آمنا إلخ وتتشاغلون ﴿حَتَّى أَنسَوْكُمْ﴾ أي : الاستهزاء بهم فإن أنفسهم ليست سبب الإنساء.
﴿ذِكْرِى﴾ أي ذكركم إياي والخوف مني والعمل بطاعتي من فرط أشتغالكم باستهزائهم.
﴿وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ وذلك غاية الاستهزاء.
وقال مقاتل : نزلت في بلال وعمار وسلمان وصهيب وأمثالهم من فقراء الصحابة كان كفار قريش كأبي جهل وعتبة وأبي بن خلف وأضرابهم يستهزئون بهم وبأسلامهم ويؤذونهم.
﴿إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾ بسبب صبرهم على أذيتهم والصبر حبس النفس عن الشهوات.
﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ﴾ ثاني مفعولي الجزاء أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به.
وفي "التأويلات النجمية" : وفيه من اللطائف أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله من الله ينتفعون بإنكار منكريهم واستخفاف مستهزئيهم وأن أهل الشقاوة كما يخسرون بمعاملاتهم الفاسدة مع أنفسهم يخسرون باستهزائهم وإنكارهم على الناصحين المرشدين ﴿قَالَ﴾ الله تعالى تذكيراً لما لبثوا فيما سألوا الرجوع إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته بقوله ﴿اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾.
﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرْضِ﴾ التي تدعون أن ترجعوا إليها يقال لبث بالمكان أقام به ملازماً له.
﴿عَدَدَ سِنِينَ﴾ تمييز لكم ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ استقصاراً لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى دخولهم في النار أو لأنها كانت أيام السرور قصار أو لأنها منقضية والمنقضي كالمعدوم.
هردم ازعمر كرامي هست كنج بي بدل
ميرود كنجي نين هر لحظه برباد آه آه
﴿قَالُوا لَبِثْنَا﴾ أي الذين يعلمون عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها.
وفي "التأويلات النجمية" : فاسأل العادين يعني الذين يعدّون أنفاسنا وأيامنا وليالينا من الملائكة الموكلين علينا.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١١٠
﴿أَنِ﴾ ما ﴿لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا﴾ تصديقاً لهم في تقليلهم لسني لبثهم في الدنيا وقليلاً صفة مصدر محذوف أي لبثاً قليلاً أو زمان محذوف أي زماناً قليلاً ﴿لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لعلمتم يومئذٍ قلة لبثكم فيها كما علمتم اليوم.
وفي "بحر العلوم" : أي لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لما أجبتم بهذه المدة فعلى العاقل أن يتدارك حاله ويصلح أعماله قبل أن تنفد الأنفاس وينهدم الأساس قيل :
ألا إنما الدنيا كظل سحابة
أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت
فلا تك فرحاناً بها حين أقبلت
ولاتك جزعاناً بها حين ولت
قال أردشير بن بابك بن ساسان وهو أول ملك من آل ساسان : لا تركنن إلى الدنيا فإنها لا تبقى على أحد ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها.
قال العلامة الزمخشري استغنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقطع ذكر المعاذير والعلل فإنك في أجل محدود وعمر غير ممدود قال الشيخ سعدي قدس سره :
كنون وقت تخمست اكر روري
كر اميد وار أي كه خرمن بري
بشهر قيامت مرو تنكدست
كه وجهي ندارد بغفلت نشست
غنيمت شمر أين كرامي نفس
كه ي مرغ قيمت ندارد قفس
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز بزست والوقت سيف
قال بعض الكبار : لو علمت أن ما فات من عمرك لا عوض له لم يصح منك غفلة ولا إهمال ولكنت تأخذ بالعزم والحزم بحيث تبادر الأوقات وتراقب الحالات خوف الفوات عاملاً على قول القائل :
السباق السباق قولاً وفعلاً
حذر النفس حسرة المسبوق
وما حصل من عمرك إذا علمت أن لا قيمة له كنت تستغرق أوقاتك في شكر الحاصل وتحصيل الواصل فقد قال علي رضي الله عنه بقية عمر المرء مالها ثمن يدرك به منها ما فات ويحيي ما مات، وفي الحديث :"ما من ساعة تأتي على العبد لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة".
واعلم أن العباد على قسمين في أعمارهم فرب عمر اتسعت آماده وقلّت أمداده كأعمار بعض بني إسرائيل إذ كان الواحد منهم يعيش الألف ونحوها ولم يحصل على شيء مما يحصل لهذا الأمة مع قصر أعمارها ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده كعمر من فتح عليه من هذه
١١٠
الأمة فوصل إلى عناية الله بلمحة فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمان ما لا يدخل تحت العبارة فالخذلان كل الخذلان أن تتفرع من الشواغل ثم لا تتوجه إليه بصدق النية حتى يفتح عليك بما لا تصل الهمم إليه وأن تقل عوائقك ثم لا ترحل إليه عن عوالم نفسك والاستئناس بيومك وأمسك فقد جاء خصلتان مغبون فيهما كثير من الناس والفراع ومعناه أن الصحيح ينبغي أن يكون مشغولاً بدين أو دنياً فهو مغبون فيهما.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١١٠