وقسم بقوا في عالم الأرواح وتجردوا عن ملابس الجسمانية لطيفة كانت أو كثيفة وهم المهيمون الذين أشير إليهم بقوله تعالى :﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ وهم غير مأمورين بالسجود إذ ليس لهم شعور أصلاً لا بأنفسهم ولا بغيرهم من الموجودات مطلقاً لاستغراقهم في بحر شهود الحق.
والإنسان أفضل من هذين القسمين في شرف الحال ورتبة الكمال لأنه مخلوق بقبضتي الجمال والجلال بخلاف الملائكة فإنهم مخلوقون بيد الجمال فقط كما أشير إليه بقوله :
ملائك را ه سود ازحسن طاعت
و فيض عشق بر آدم فرو ريخت
وذلك لأن العشق يقتضي المحنة وموطنها الدنيا ولذا أهبط آدم من الجنة والمحنة من باب التربية وهي من آثار الجلال والمراد بالملائكة ههنا هو القسم الأول لأنهم يشاركون مؤمني البشر في الجمال والوجود الجسماني فكما أن مؤمني البشر كلهم يصلون على النبي فكذا هذا القسم من الملائكة مع أن مقام التعظيم يقتضي التعميم كما لا يخفى على ذي القلب السليم فاعرف واضبط أيها اللبيب الفهيم ﴿يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ﴾ أي : يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه وذلك من الله تعالى بالرحمة ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
فقوله يصلون محمول على عموم المجاز إذ لا يجوز إرادة معنيي المشترك معاً فإنه لا عموم للمشترك مطلقاً أي : سواء كان بين المعاني تنافٍ أم لا.
قال القهستاني : الصلاة من الله
٢١٩
الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن الإنس والجن القيام والركوع والسجود والدعاء ونحوها ومن الطير والهوام التسبيح اسم من التصلية وكلاهما مستعمل بخلاف الصلاة بمعنى أداء الأركان فإن مصدرها لم يستعمل فلا يقال صليت تصلية بل صلاة، وقال بعضهم : الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة لغير النبي عليه السلام وبمعنى التشريف بمزيد الكرامة للنبي والرحمة عامة والصلاة خاصة كما دل العطف على التغاير في قوله تعالى :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١
﴿أُوالَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ (البقرة : ١٥٧)، وقال بعضهم : صلوات الله على غير النبي رحمة وعلى النبي ثناء ومدحة قولاً وتوفيق وتأييد فعلاً وصلاة الملائكة على غير النبي استغفار وعلى النبي إظهار للفضيلة والمدح قولاً والنصرة والمعاونة فعلاً وصلاة المؤمنين على غير النبي دعاء وعلى النبي طلب الشفاعة قولاً واتباع السنة فعلاً.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} اعتنوا أنتم أيضاً بذلك فإنكم أولى به ﴿وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ بأن تقولوا اللهم صل على محمد وسلم أو ﷺ بأن يقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم لقوله عليه السلام :"إذا صليتم عليّ فعمموا" وإلا فقد نقصت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم كما في شرح القهستاني.
وقال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة لم أقف عليه أي : على هذا الحديث بهذا اللفظ ويمكن أن يكون بمعنى صلوا عليّ وعلى أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني انتهى.
وخص اللهم ولم يقل يا رب ويا رحمن صلِ لأنه اسم جامع دال على الألوهية وعلامة الإسلام في قوله لا إله إلا الله فناسب ذكره وقت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم لأنه عليه السلام جامع لنعوت الكمال مشتمل على أسرار الجمال والجلال.
وخص اسم محمد لأن معناه المحمود مرة بعد أخرى فناسب مقام المدح والثناء.
والمراد بآله الأتقياء من أمته فدخل فيه بنو هاشم والأزواج المطهرة وغيرهم جميعاً.
قال في شرح "الكشاف" وغيره معنى قوله : اللهم صل على محمد اللهم عظمه في الدنيا بإعلاء دينه وإعظام ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته وإظهار فضله عن الأولين والآخرين وتقديمه على كافة الأنبياء والمرسلين ولما لم يكن حقيقة الثناء في وسعنا أمرنا أن نكل ذلك إليه تعالى فالله يصلي عليه بسؤالنا.
سلام من الرحمن نحو جنابه
لأن سلامي لا يليق ببابه
فإن قلت فما الفائدة في الأمر بالصلاة؟ قلت : إظهار المحبة للصلاة كما استحمد فقال : قل الحمدإظهاراً لمحبة الحمد مع أنه هو الحامد لنفسه في الحقيقة ومعنى سلم اجعله يا رب سالماً من كل مكروه كما قال القهستاني.
وقال بعضهم :(التسليم هنا بمعنى : آفرين كردن) ويجيىء بمعنى (اك ساختن، وسردن وفروتنى كردن وسلامت دادن).
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١
وفي "الفتوحات المكية" أن السلام إنما شرع من المؤمنين لأن مقام الأنبياء يعطي الاعتراض عليهم لأمرهم الناس بما يخالف أهواءهم فكأن المؤمن يقول : يا رسول الله أنت في أمان من اعتراضي عليك في نفسي وكذلك السلام على عباد الله الصالحين، فإنهم كذلك يأمرون الناس بما يخالف أهواءهم بحكم الإرث للأنبياء وأما تسليمنا على أنفسنا فإن فينا ما يقتضي الاعتراض واللوم منا علينا فنلزم نفوسنا التسليم
٢٢٠


الصفحة التالية
Icon