قوله :"لولاك لما خلقت الأفلاك" لكونها أعظم الأجسام ولهذا السر لم يقل فأبوا أن يحملوها بواو العقلاء.
فإن قلت ما ذكر من السموات وغيرها جمادات والجمادات لا إدراك لها فما معنى عرض الأمانة عليها.
قلت للعلماء فيه قولان : الأول أنه على الحقيقة وهو الأنسب بمذهب أهل السنة لأنهم لا يؤولون أمثال هذا بل يحملونها على حقيقتها خلافاً للمعتزلة.
وعلى تقدير الحقيقة فيه وجهان : أحدهما أدق من الآخر.
الأول أن للجمادات حياة حقانية دل عليها كثير من الآيات نحو قوله :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ﴾ (الحج : ١٨) وقوله :﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ (فصلت : ١١) وقوله :﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ (البقرة : ٧٤) وقوله :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ (الإسراء : ٤٤) وقوله :﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَهُ﴾.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أكثر العقلاء بل كلهم يقولون أن الجمادات لا تعقل فوقفوا عند بصرهم والأمر عندنا ليس كذلك فإذا جاءهم عن نبي أو ولي أن حجراً كلمه مثلاً يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم وقد ورد "إن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له" ولا يشهد إلا من علم وقد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك لكون الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها وأسمعنا تسبيحها ونطقها وكذلك اندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله ولولا ما عنده من معرفة العظمة لما تدكدك انتهى.
ومثله ما روينا أن حضرة شيخنا وسندنا روح الله روحه ووالى في البرزخ فتوحه دعا مرة من عنده للافطار فجلسنا له وبين يديه ماء وكعك مبلول وكان لا يأكل في أواخر عمره إلا الكعك المجرد فقال أثناء الإفطار أن لهذا الخبر روحاً حقانياً فظاهره يرجع إلى الجسد وروحه يرجع إلى الروح فيتقوى به الجسم والروح جميعاً، وفي "المثنوي" :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١
علم وحكمت زايد از لقمه حلال
عشق ورقت آيد ازلقمه حلال
ثم قال ولكل موجود روح إما حيواني أو حقاني فجسد الميت له روح حقاني غير روحه الحيواني الذي فارقه ألا ترى أن الله تعالى لو أنطقه لنطق فنطقه إنما هو لروحه وقد جاء أن كل شيء يسبح بحمده حجراً أو شجراً أو غير ذلك وما هو إلا لسريان الحياة فيه حقيقة ولذا سبح الجبال مع داود وحمل الريح سليمان عليه السلام وجذبت الأرض قارون وحن الجذع في المسجد النبوي وسلم الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحو ذلك مما لا يحصى، وفي "المثنوي" :
ون شما سوى جمادى مى رويد
محرم جان جمادان ون شويداز جمادى عالم جانها رويد
غلغل اجزاى عالم بشنويد
ون ندارد جان توقنديلها
بهر بينش كرده تأويلها
والوجه الثاني أن الله تعالى ركب العقل والفهم في الجمادات المذكورة عند عرض الأمانة
٢٥١
كما ركب العقل وقبول الخطاب في النملة السليمانية والهدهد وغيرهما من الطيور والوحوش والسباع بل وفي الحجر والشجر والتراب فهن بهذا العقل والإدراك سمعن الخطاب وانطقهن الله بالجواب حيث قال لهن أتحملن هذه الأمانة على أن يكون لكنّ الثواب والنعيم في الحفظ والأداء والعقاب والجحيم في الغدر والخيانة ﴿فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا﴾ الأباء شدة الامتناع فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء ﴿وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ قال في "المفردات" : الأشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدى بعلى فمعنى العناية فيه أظهر كما قال في "تاج المصادر" (الاشفاق : ترسيدن ومهربانى كردن) يعدى بعلى وأصلهما واحد.
والمعنى وخفن من الأمانة وحملها وقلن يا رب نحن مسخرات بأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً ولم يكن هذا القول منهن من جهة المعصية والمخالفة بل من جهة الخوف والخشية من أن لا يؤدين حقوقها ويقعن في العذاب ولو كان لهن استعداد ومعرفة بسعة الرحمة واعتماد على الله لما أبين وكان العرض عرض تخيير لا عرض إلزام وإيجاب لأن المخالفة والإباء عن التكليف الواجب يوجب المقت والسقوط عن درجة الكمال ولم يذكر تعالى توبيخاً على الإباء ولا عقوبة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١


الصفحة التالية
Icon