وجهل ربه فإنه في أول الأمر يحب هذه البهيمية التي تأكل وتشرب وتنكح وتحمل الذكورية والأنوثية اللتين اشترك فيهما جميع الحيوانات وما يدري أن هذه الصورة الحيوانية قشر وله لب وهو محبوب الحق الذي قال :﴿يُحِبُّهُمْ﴾ وهو محب الحق الذي قال : فإذا عبر عن قشر جسمانية الظلمانية ووصل إلى لب روحانية النورانية.
ثم علم أن هذا اللب النوراني أيضاً قشر فإن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"إنسبعين ألف حجاب من نور وظلمة" فعبر عن القشر الروحاني أيضاً ووصل إلى لبه الذي هو محبوب الحق ومحبه فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه بتوحيد لا شرك فيه وجهل ما سوى الله تعالى بالكلية وأيضاً أن الجهول هو العالم لأن نهاية العلم هو الاعتراف بالجهل في باب المعرفة والعجز عن درك الإدراك إدراك.
قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١
غير انسان كسش نكرد قبول
زانكه انسان ظلوم بود وجهول
ظلم او آنكه هستى خود را
ساخت فانى بقاى سرمدرا
جهل او آنكه هره جزحق بود
صورت آن زلوح دل نزدود
نيك ظلمى كه عين معدلتست
نغز جهلى كه مغز معرفتست
اى نكرده دل از علائق صاف
مزن از دانش خلائق لاف
زانكه در عالم خدا دانى
جهل علمست علم نا دانى
فلو لم يكن للإنسان قوة هذه الظلومية والجهولية لما حمل الأمانة وبهذا الاعتبار صح تعليل الحمل بهما.
وقال بعض أهل التفسير وتبعهم صاحب "القاموس" : إن الوصف بالظلومية والجهولية إنما يليق بمن خان في الأمانة وقصر عن حقها لا بمن يتحملها ويقبلها فمعنى حملها الإنسان أي : خانها والإنسان الكافر والمنافق من قولك فلان حامل للأمانة ومحتمل لها بمعنى أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج من عهدتها بجعل الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها كما يقال ركبته الديون فما يحمل إذا كناية عن الخيانة والتضيع والمعنى إنا عرضنا الطاعة على هذه الأجرام العظام فانقادت لأمر الله انقياداً يصح من الجمادات وأطاعت له إطاعة تليق بها حيث لم تمتنع عن مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة كما قال :﴿أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ (فصلت : ١١) والإنسان مع حياته وكمال عقله وصلاحه للتكليف لم يكن حاله فيما يصح منه ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه مثل حال تلك الجمادات بل مال إلى أن يكون محتملاً لتلك الأمانة مؤدياً إياها ومن ثم وصف بالظلم حيث ترك أداء الأمانة وبالجهل حيث أخطأ طريق السعادة ففي هذا التمثيل تشبيه انقياد تلك الأجرام لمشيئة الله إيجاداً وتكويناً بحال مأمور مطيع لا يتوقف عن الامتثال فالحمل في هذا مجاز وفي التمثيل السابق على حقيقته وليس في هذا المعنى حذف المعطوف مع حرف العطف بخلافه في محل الحمل على التحمل فإن المراد حينئذٍ وحملها الإنسان ثم غدر بالحمل حتى يصح التعليل بقوله :﴿إِنَّه كَانَ﴾ إلخ فاعرف هذا المقام والقول ما قالت حذام.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف عرض الأمانة عليه مع علمه بحاله من كونه ظلوماً جهولاً؟ والجواب هذا سؤال طويل
٢٥٥
الذيل فإنه تعالى قد بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الإيمان مع علمه السابق بأن يؤمن بعضهم ويكفر بعضهم والخطاب عم الكل مع علمه باختلاف أحوالهم في الإيمان والكفر فهذا من قبيله وسبيله فإنه مالك الأعيان والآثار على الإطلاق.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ظلوماً بحق الأمانة جهولاً بما يفعل من الخيانة يعني لم تكن الخيانة عن عمد وقصد بل كانت عن جهل وسهو كما قال :﴿فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا﴾ (طه : ١١٥) والسهو والنسيان مغفور والجهل في بعض المواضع معذور الهنا اصنع بنا ما أنت أهله ولا تصنع بنا ما نحن أهله، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١
بر در كعبه سائلى ديدم
كه همى كفت ميكرستى خوش
من نكويم كه طاعتم بذير
قلم عفو بركناهم كش
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الانسَـانُا إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا * لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِا وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمَا﴾.


الصفحة التالية
Icon