﴿لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ﴾ الذين ضيعوا الأمانة بعدما قبلوها ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ﴾ الذين خانوا في الأمانة بعدم قبولها رأساً.
قال في "الإرشاد" : إشارة إلى الفريق الأول أي : حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضاً له من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها أبرز في معرض الغرض أي : كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية.
قال في "بحر العلوم" : ويجوز أن تكون اللام علة لعرضنا أي : عرضنا ليظهر نفاق المنافقين وإشراك المشركين فيعذبهما الله ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ﴾ الذين حفظوا الأمانة وراعوا حقها.
قال في "الإرشاد" : إشارة إلى الفريق الثاني أي : كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله على هؤلاء من أفراده أي : يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبليته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة والإظهار في موضع الإضمار ثانياً لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ مبالغاً في المغفرة والرحمة حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم.
وفي "التأويلات النجمية" : هذه اللام لام الصيرورة والعاقبة يشير إلى أن الحكمة في عرض الأمانة أن يكون الخليقة في أمرها على ثلاث طبقات :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣١
طبقة منها : تكون الملائكة وغيرهم ممن لم يحملها فلا يكون لهم في ذلك ثواب ولا عقاب.
وطبقة منها : من يحملها ولم يؤد حقها وقد خان فيها وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات الذين حملوها بالظلومية على أنفسهم وضيعوها بجهولية قدرها فما رعوها حق رعايتها فحاصل أمرهم العذاب المؤبد.
وطبقة منها : من يحملها ويؤدي حقها ولم يخن فيها ولكن لثقل الحمل وضعف الإنسانية يتلعثم في بعض الأوقات فيرجع إلى الحضرة بالتضرع والابتهال معترفاً بالذنوب وهم المؤمنون والمؤمنات فيتوب الله عليهم لقوله :﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ﴾ والحكمة في ذلك ليكون كل طبقة من الطبقات الثلاث مرآة يظهر فيها جمال
٢٥٦
صفة من صفاته.
فالطبقة الأولى : إذا لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها فهم مرآة جمال صفة عدله.
والطبقة الثانية : إذ حملوها طمعاً في نفعها ولم يؤدوا حقها وقد خانوا فيها بأن باعوها بعوض من الدنيا الفانية فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين فهم مرآة يظهر فيها جمال صفة قهره.
والطبقة الثالثة : إذ حملوها بالطوع والرغبة والشوق والمحبة وأدوا حقها بقدر وسعهم ولكن كما قيل لكل جواد كبوة وقع في بعض الأوقات قدم صدقهم عند ربهم في حجر بلاء وابتلاء بغير اختيارهم ثم اجتباهم ربهم فتاب عليهم وهداهم بجذبات العناية إلى الحضرة فهم مرآة يظهر فيها جمال فضله ولطفه وذلك قوله تعالى :﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ للمؤمنين بفضله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء انتهى.
قال بعض العارفين : الحكمة الإلهية اقتضت ظهور المخالفة من الإنسان ليظهر منه الرحمة والغفران، قال الحافظ :
سهو وخطاى بنده كرش نيست اعتبار
معنى عفو ورحمت آمرزكار يست


الصفحة التالية
Icon