والفرق بين الافتراء والكذب أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه ومعنى الافتراء بالفارسية (دروغ بافتن) أي : اختلق محمد على الله كذباً ﴿أَم بِه جِنَّةُ﴾ (يا بدو جنوني هست) أي : جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه من غير قصد والجنون حائل بين النفس والعقل وهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه وهما الكذب على عمد وهوالمعنيّ بالافتراء والكذب لا عن عمد وهو المعنيّ بالجنون فيكون معنى أم به جنة أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون لا افتراء له لأن الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالإخبار حال الجنة قسيم للافتراء الأخص لا الكذب الأعم ثم أجاب الله عن ترديدهم فقال :﴿بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ﴾ أي : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء كما زعموا وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالحشر والنشر واقعون ﴿فِى الْعَذَابِ﴾ في الآخرة ﴿وَالضَّلَـالِ الْبَعِيدِ﴾ في الدنيا أي : البعيد عن الصواب والهدي بحيث لا يرجى الخلاص منه ووصف الضلال بالبعد على الإسناد المجازي للمبالغة إذ هو في الأصل وصف الضال لأنه الذي يتباعد عن المنهاج المستقيم وكلما ازداد بعداً عنه كان أضل وتقديم العذاب على ما يوجبه ويؤدي إليه وهو الضلال للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم وجعل العذاب والضلال محيطين بهم إحاطة الظرف بالمظروف لأن أسباب العذاب معهم فكأنهم في وسطه ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على أن علة ما اجترأوا عليه كفرهم بالآخرة وما فيها فنون العقاب ولولاه لما فعلوا ذلك خوفاً من غائلته.
وحاصل الآية إثبات الجنون الحقيقي لهم فإن الغفلة عن الوقوع في العذاب وعن الضلال الموجب لذلك جنون أي : جنون واختلال عقل أي : اختلال إذ لو كان فهمهم وإدراكهم تاماً وكاملاً لفهموا حقيقة الحال ولما اجترأوا على سوء المقال.
قال بعض الكبار كما أن الطفل الصغير يسبى إلى بعض البلاد فينسى وطنه الأصلي بحيث لو ذكر به لم يتذكر كذلك نفس الإنسان القاسي قلبه إن ذكر بالآخرة وهو وطنه الأصلي لم يتذكر ويكفر به ويقول مستهزئاً ما يقول ولا يتفكر أن أجزاءه كانت متفرقة حين كان هو ذرة أخرجت من صلب آدم كيف جمع الله
٢٦٣
ذرات شخصه المتفرقة وجعلها خلقاً جديداً كذلك يجمع الله أجزاءه المتفرقة للبعث.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨
بامرش وجود از عدم نقش بست
كه داند جزاو كردن ازنيست هست
دكر ره بكتم عدم در برد
وزانجا بصحراى محشر برد
دهد روح كر تربت آدمى
شود تربت آدم دران يكدمى
كسى كو بخواهد نظير نشور
بكو در نكر سبزه را در ظهور
كه بعد خزان بشكفد ند كل
بجوشد زمين در بهاران و مل
﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ﴾ الفاء للعطف على مقدر أي : افعلوا ما فعلوا من المنكر المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفرّ لهم وهو السماء والأرض فإنهما أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم حيثما كانوا وساروا وبالفارسية :(آيا نمى نكرند كافران بسوى آنه در يش ايشانست از آسمان وزمين).
ثم بين المحذور المتوقع من جهتهما فقال :﴿إِن نَّشَأْ﴾ جرياً على موجب جناياتهم ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ﴾ كما خسفناها بقارون وخسف به الأرض غاب به فيها فالباء للتعدية وبالفارسية :(فرو بريم ايشانرا بزمين) ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ﴾ كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستيجابهم ذلك بما ارتكبوه من الجرائم والكسف كقطع لفظاً ومعنى جمع كسفة.
قال في "المفردات" ومعنى الكسفة قطعة من السحاب والقطن ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة ومعنى إسقاط الكسف من السماء إسقاط قطع من النار كما وقع لأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وأشجار ملتفة حيث أرسل الله عليهم حراً شديداً فرأوا سحابة فجاءوا ليستظلوا تحتها فأمطرت عليهم النار فاحترقوا ﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ أي : فيما ذكر من السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظر من جميع الجوانب أو فيما تلى من الوحي الناطق بما ذكر ﴿لايَةً﴾ لدلالة واضحة ﴿لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ شأنه الإنابة والرجوع إلى ربه فإنه إذا تأمل فيهما أو في الوحي المذكور ينزجر عن تعاطي القبيح وينيب إليه تعالى.
قال في "المفردات" النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى والإنابة إلى الله الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل.
وفي الآية حث بليغ على التوبة والإنابة وزجر عن الجرم والجناية وأن العبد الخائف لا يأمن من قهر الله طرفة عين فإن الله قادر على كل شيء يوصل اللطف والقهر من كل ذرة من ذرات العالم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨