﴿وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يقال في رقبته غل من حديد أي : قيد وطوق وأصل الغل توسط الشيء ومنه الغل للماء الجاري خص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه كما في "المفردات" والمعنى : ونجعل الأغلال يوم القيامة في أعناق الذين كفروا بالحق لما جاءهم في الدنيا من التابعين والمتبوعين وإيراد المستقبل بلفظ الماضي من جهة تحقق وقوعه والإظهار في موضع الإضمار حيث لم يقل في أعناقهم للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب إغلالهم ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي : لا يجزون إلا جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي وإلا بما كانوا يعملونه على نزع الجار فلما قيدوا أنفسهم في الدنيا ومنعوها عن الإيمان بتسويلات الشيطان الجني والإنسي جوزوا في الآخرة بالقيد.
وفي الفروع وكره جعل الغل في عنق عبده لأنه عقوبة أهل النار.
قال القهستاني : الغل الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس انتهى وهو معتاد بين الظلمة.
وقال الفقيه : إنه في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الأباق كما في "الكبرى".
ولا يكره أن يجعل قيداً في رجل عبده لأنه سنة المسلمين في السفهاء وأهل الفساد فلا يكره في العبد إذ فيه تحرز عن أباقه وصيانة لماله وحل ربطه بالحبل ونحوه.
قال في "نصاب الاحتساب" : وأما ما اعتاده أهل الحسبة في إطاقة السوقيين بعد تحقق جنايتهم وخيانتهم فأصله ما ذكر في أدب القاضي للخصاف أن شاهد الزور يطاق به أي : يجعل في عنقه الطوق وهو ما يقال له بالفارسية (تخته كله) ويجوز أن تكون الإطاقة بالفاء وذلك للتشهير بين الناس.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَه أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾.
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ﴾ من القرى بالفارسية :(نفرستاديم درهي ديهى وشهرى).
قال في "كشف الأسرار" : القرية المصر تقرى أهلها وتجمعهم ﴿مِّن نَّذِيرٍ﴾ نبي ينذر أهلها بالعذاب ﴿إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ﴾ المترف كمكرم المتنعم والموسع العيش والنعمة من الترفة بالضم وهو التوسع في النعمة يقال أترفه نعمه وأترفته النعمة أطغته أي : قال رؤساء تلك القرية المتكبرون المتنعمون بالدنيا لرسلهم ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ﴾ على زعمكم من التوحيد
٢٩٨
والإيمان ﴿كَـافِرُونَ﴾ منكرون على مقابلة الجمع بالجمع.
وهذه الآية جاءت لتسلية النبي عليه السلام أي : يا محمد هذه سيرة أغنياء الأمم الماضية فلا يهمك أمر أكابر قومك فتخصيص المتنعمين بالتكذيب مع اشتراك الكل فيه إما لأنهم المتبوعين أو لأن الداعي المعظم إلى التكذيب والإنكار هو التنعم المستتبع للاستكبار.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٨
﴿وَقَالُوا﴾ أي : الكفار المترفون للفقراء المؤمنين فخراً بزخارف الدنيا وبما هو فتنة لهم ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا﴾ منكم في الدنيا ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ في الآخرة على تقدير وقوعها لأن المكرم في الدنيا لا يهان في الآخرة.
﴿قُلْ﴾ يا محمد رداً عليهم ﴿إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسعه ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ أن يبسطه له ويوسعه من مؤمن وكافر ﴿وَيَقْدِرُ﴾ أي : يضيق على من يشاء أن يقدره عليه ويضيقه من مؤمن وكافر حسب اقتضاء مشيئته المبنية على الحكم البالغة فلا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها فليس في التوسيع دلالة على الإكرام كما أنه ليس في التضييق دلالة على الإهانة وفي الحديث :"الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر".
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم أهل الغفلة والخذلان ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ حكمة البسط والقدر فيزعمون أن مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار القدر هو الذل والهوان ولا يدرون أن الأول كثيراً ما يكون بطريق الاستدراج والثاني بطريق الابتلاء ورفع الدرجات قال الصائب :
نفس را بدخو بناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان سير كاهل ميكند مزدور را


الصفحة التالية
Icon