﴿وَاللَّهُ﴾ وحده وهو مبتدأ خبره قوله ﴿الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ﴾ الإرسال في القرآن على معنيين : الأول بمعنى (فرستادن) كما في قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ﴾.
والثاني بمعنى (فرو كشادن) كما في قوله تعالى :﴿أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ﴾.
وفي "المفردات" : الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة وقد يكون ذلك للتسخير كإرسال الريح والمطر وقد يكون ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو ﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ (مريم : ٨٣) والإرسال يقابل الإمساك.
والرياح : جمع ريح بمعنى الهواء المتحرك أصله روح ولذا يجمع على أرواح وأما أرياح قياساً على رياح فخطأ.
قال صاحب "كشف الأسرار" (الله است كه فرو كشايد بتقدير وتدبير خويش بهنكام دربايست وباندازه دربايست بادهاى مختلف از مخارج مختلف) أراد بها الجنوب والشمال والصبا فإنها رياح الرحمة لا الدبور فإنها رياح العذاب أما الجنوب فريح تخالف الشمال مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا وأما الشمال بالفتح ويكسر فمهبها بين مطلع الشمس وبنات النعش أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر ولا تكاد تهب ليلاً وأما الصبا فمهبها من جانب المشرق إذا استوى الليل والنهار سميت بها لأنها تصبو إليها النفوس أي : تميل ويقال لها القبول أيضاً بالفتح لأنها تقابل الدبور أو لأنها تقابل باب الكعبة أو لأن النفس تقبلها ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ تهيجه وتنشره بين السماء والأرض لإنزال المطر فإنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعاً.
قال في "تاج المصادر" (الإثارة : برانكيختن كرد وشورانيدن زمين وميغ آوردن باد) والسحاب جسم يملأه الله ماء كما شاء وقيل بخار يرتفع من البحار والأرض فيصيب الجبال فيستمسك ويناله البرد فيصير ماء وينزل وأصل السحب الجر كسحب الذيل والإنسان على الوجه ومنه السحاب لجره الماء وصيغة المضارع مع مضي أرسل وسقنا لحكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة ولأن المراد بيان إحداثها لتلك الخاصية ولذلك أسند إليها ﴿فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ السوق بالفارسية (راندن) والبلد المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه ولاعتبار الأثر قيل : بجلده بلد أي : أثر والبلد الميت هو الذي لا نبت فيه قد أغبر من القحط.
قال الراغب : الموت يقال بإزاء القوة النامية الموجودة في النبات ومقتضى الظاهر فساقه أي : ساق الله ذلك السحاب وأجراه إلى الأرض التي تحتاج إلى الماء وقال فسقناه إلى بلد التفاتاً من الغيبة إلى التكلم دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى وأن الكل منه والوسائط أسباب وقال إلى بلد ميت بالتنكير قصداً به إلى بعض البلاد الميتة وهي بلاد الذين تبعدوا عن مظان الماء
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١١
﴿فَأَحْيَيْنَا﴾ الفاآت الثلاث للسببية فإن ما قيل كل واحدة منها سبب لمدخولها غير أن الأولى دخلت على السبب بخلاف الأخيرتين فإنهما دخلتا على المسبب ﴿بِهِ﴾ أي : بالمطر النازل من السحاب المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازماً في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب ﴿الارْضِ﴾ أي : صيرناها
٣٢٢
خضراء بالنبات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي : يبسها ﴿كَذَالِكَ النُّشُورُ﴾ الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي : مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الموتى وإخراجهم من القبور يوم الحشر في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلاً سوى الألف في الأول دون الثاني فالآية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث حيث دلهم على مثال يعاينونه.
وعن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الموتى؟ قال :"أما مررت بواد ممحلاً ثم مررت به خضراً" قلت : بلى قال :"فكذلك يحيي الله الموتى" أو قال :"كذلك النشور".
وقال بعضهم في آية كذلك النشور أي : في كيفية الإحياء فكما أن إحياء الأرض بالماء فكذا إحياء الموتى كما روي أن الله تعالى يرسل من تحت العرش ماء كمني الرجال فينبت به الأجساد كنبات البقل ثم يأمر إسرافيل فيأخذ الصور فينفخ نفخة ثانية فتخرج الأرواح من ثقب الصور كأمثال النحل وقد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله : ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض فيخرجون حفاة عراة.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى من سنته إذا أراد إحياء أرض يرسل الرياح فتثير سحاباً ثم يوجه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد تخصيصاً له كيف يشاء أو يمطرها هنالك كيف يشاء كذلك إذا أراد إحياء قلب عبد يرسل أولاً رياح الرجاء ويزعج بها كوامن الإرادة ثم ينشىء فيه سحاب الاحتياج ولوعة الإنزعاج ثم يأتي بمطر الجود فينبت به في القلب أزهار البسط وأنوار الروح ويطيب لصاحبه العيش والحضور.
يا رب از ابر هدايت برسان بارانى


الصفحة التالية
Icon