قال في "الإرشاد" : هذه الآية نفي للتحمل اختياراً والأولى نفي له إجباراً.
والإشارة أن الطاعة نور والعصيان ظلمة فإذا اتصف جوهر الإنسان بصفة النور أو بصفة الظلمة لا تنقل تلك الصفة من جوهره إلى جوهر إنسان آخر أياً ما كان ألا ترى أن كل أحد عند الصراط يمشي في نوره لا يتجاوز منه إلى غيره شيء وكذا من غيره إليه ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ﴾ يا محمد بهذه الإنذارات.
والإنذار الإبلاغ مع التخويف ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾ يخافون ﴿رَبِّهِمْ﴾ حال كونهم ﴿بِالْغَيْبِ﴾ غائبين عن عذابه وأحكام الآخرة أو عن الناس في خلواتهم يعني :(در خلوتها أثر خشيت برايشان ظاهرت نه در صحبتها) فهو حال من الفاعل أو حال كون ذلك العذاب غائباً عنهم فهو حال من المفعول ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ﴾ أي : راعوها كما ينبغي وجعلوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً.
قال في "كشف الأسرار" وغاير بين اللفظين لأن أوقات الخشية دائمة وأوقات الصلاة معينة منقضية.
والمعنى إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والفساد وإن كنت نذيراً للخلق كلهم وخص الخشية والصلاة بالذكر لأنهما أصلا الأعمال الحسنة الظاهرية والباطنية.
أما الصلاة فإنها عماد الدين.
وأما الخشية فإنها شعار اليقين وإنما يخشى المرء بقدر علمه بالله كما قال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ (فاطر : ٢٨) فقلب لم يكن عالماً خاشياً يكون ميتاً لا يؤثر فيه الإنذار كما قال تعالى :﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا﴾ (يس : ٧٠) ومع هذا جعل تأثير الإنذار مشروطاً بشرط آخر وهو إقامة الصلاة وامارة خشية قلبه بالغيب محافظة الصلاة في الشهادة وفي الحديث "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" ﴿وَمِنَ﴾ (وهركه) ﴿تَزَكَّى﴾ تطهر من أوضار الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذه الإنذارات وأصلح حاله بفعل الطاعات ﴿فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها ويقال : من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ أي : الرجوع لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١١
واعلم أن ثواب التزكي عن المعاصي هو الجنة ودرجاتها وثواب التزكي عن التعلق بما سوى الله تعالى هو جماله تعالى كما أشار إليه بقوله :﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ فمن رجع إلى الله بالاختيار لم يبق له بما دونه قرار، قال الشيخ سعدي قدس سره :
ندادند صاحب دلان دل بوست
وكرابلهى داد بى مغز اوست
مى صرف وحدت كسى نوش كرد
كه دنيى وعقبى فراموش كرد
والأصل هو العناية.
وعن إبراهيم المهلب السائح رضي الله عنه قال : بينا أنا أطوف وإذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول بحبك لي ألا رددت عليّ قلبي فقلت : يا جارية من أين تعلمين أنه يحبك قالت بالعناية القديمة جيش في طلبي الجيوش وأنفق الأموال حتى أخرجني
٣٣٧
من بلاد الشرك وأدخلني في التوحيد وعرفني نفسي بعد جهلي إياها فهل هذا يا إبراهيم إلا لعناية أو محبة؟ قلت : وكيف حبك له؟ قالت : أعظم شيء وأجله قلت : وكيف هو؟ قالت : هو أرق من الشراب وأحلى من الجلاب.
وإنما تتولد معرفة الله من معرفة النفس بعد تزكيتها كما أشار إليه :"من عرف نفسه فقد عرف ربه" ففي هذا أن الولد يكون أعظم في القدر من الوالد فافهم رحمك الله وإياي بعنايته.
﴿وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ تمثيل للكافر والمؤمن فإن المؤمن من أبصر طريق الفوز والنجاة وسلكه بخلاف الكافر فكما لا يستوي الأعمى والبصير من حيث الحس الظاهري إذ لا بصر للأعمى كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن من حيث الإدراك الباطني ولا بصيرة للكافر بل الكافر أسوأ حالاً من الأعمى المدرك للحق إذ لا اعتبار بحاسة البصر لاشتراكها بين جميع الحيوانات.
وفيه إشارة إلى حال المحجوب والمكاشف فإن المحجوب أعمى عن مطالعة الحق فلا يستوي هو والمكاشف الذي كوشف له عن وجه السر المطلق.
وقال الكاشفي :﴿وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى﴾ (وبرابر نيست نابينا يعني كافر يا جاهل يا كمراه ﴿وَالْبَصِيرُ﴾ وبينا يعني مؤمن يا عالم ياراه يافته).