﴿وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ﴾ يعمل بالكتاب في أغلب الأوقات ولا يخلو من خلط الشيء وبالفارسية :(وهست از ايشان كه راه ميان رفت نه هنر سابقان ونه تفريط ظالمان) فان الاقتصاد بالفارسية :(ميان رفتن دركار) وإنما قال مقتصد بصيعة الافتعال لأن ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقُ﴾ أصل السبق التقدم في السير ويستعار لاحراز الفضل فالمعنى متقدم إلى ثواب الله وجنته ورحمته ﴿بِالْخَيْرَاتِ﴾ بالأعمال الصالحة بضم التعليم والإرشاد إلى العلم والعمل والخير ما يرغب فيه الكل كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع وضده الشر.
قال بعض الكبار : وهذه الخيرات على قسمين : قسم من كسب العبد بتقديم الخيرات، وقسم من فضل الرب بتواتر الجذبات إلى أن يسبق على الظالم لنفسه وعلي المقتصد بالسير بالله في الله وإن كان مسبوقاً بالذكر في الأخير كما كان حال النبي عليه السلام مسبوقاً بالخروج في آخر الزمان للرسالة سابقاً بالرجوع إلى الحضرة ليلة المعراج على جميع الأنبياء والرسل كما أخبر عن حال نفسه وحال سابقي أمته بقوله :"نحن الآخرون السابقون" أي : الآخرون خروجاً في عالم الصورة السابقون وصولاً إلى عالم الحقيقة.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه بدأ بالظالمين إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وإن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص.
وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له".
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١١
وقال أبو بكر بن الوراق رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال العبد ثلاث : معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة فإذا عصى دخل في حيز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين.
والسابق على ضربين سابق ولد سابقاً وعاش سابقاً ومات سابقاً وسابق ولد سابقاً وعاش ظالماً ومات سابقاً فاسم الظالم عليهم عارية إذا ولدوا سابقين
٣٤٨
وماتوا سابقين ولا عبرة بالظلم العارض بل العبرة بالأزل والأبد لا بالبرزخ بينهما فأما من ولد ظالماً وعاش ظالماً ومات ظالماً من هذه الأمة فهو من أهل الكبائر الذين قال النبي عليه السلام فيهم :"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
فعلى هذا المقتصد من مات على التوبة والسابق من عاش في الطاعة ومات في الطاعة.
أو السابق هو الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيآته مكفرة وهو معنى قوله عليه السلام :"أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب".
وأما المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً.
وأما الذين ظلموا فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته.