وأما قول من قال : الظالم لنفسه آدم عليه السلام والمقتصد إبراهيم عليه السلام والسابق محمد عليه السلام ففيه أن الآية في حق هذه الأمة إلا أن يعاد الضمير في قوله منهم إلى العباد مطلقاً.
فإن قلت هل يقال إن آدم ظلم نفسه؟ قلت : هو قد اعترف بالظلم لنفسه في قوله :"ربنا ظلمنا أنفسنا" وإن كان الأدب الإمساك عن مثل هذا المقال في حقه وإن كان له وجه في الجملة كما قال الراغب الظلم يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة ويقال فيما يقل ويكثر من التجاوز ولهذا يستعمل في الذنب الكبير والصغير ولذلك قيل لآدم ظالم في تعديه ولإبليس ظالم وإن كان بين الظلمين بون بعيد انتهى ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ جعله في "كشف الأسرار" متعلقاً بالأصناف الثلاثة على معنى ظلم الظالم وقصد المقتصد وسبق السابق بعلم الله وإرادته.
والظاهر تعلقه بالسابق كما ذهب إليه أجلاء المفسرين على معنى بتيسيره وتوفيقه وتمكينه من فعل الخير لا باستقلاله.
وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها.
قال القشيري قدس سره : كأنه قال يا ظالم ارفع رأسك فإنك وإن ظلمت فما ظلمت إلا نفسك ويا سابق اخفض رأسك فإنك وإن سبقت فما سبقت إلا بتوفيقي ﴿ذَالِكَ﴾ السبق بالخيرات ﴿هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ من الله الكبير لا ينال إلا بتوفيقه أو ذلك الإيراث والاختيار فيكون بالنظر إلى جمع المؤمنين من الأمة وكونه فضلاً لأن القرآن
٣٥٠
أفضل الكتب الإلهية وهذ الأمة المرحومة أفضل جميع الأمم السابقة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١١
وفي "التأويلات النجمية" : أي : الذي ذكر من العالم مع السابق في الإيراث واصطفاء ودخول الجنة ومن دقائق حكمته أنه تعالى ما قال في هذا المعرض الفضل العظيم لأن الفضل العظيم في حق الظالم أن يجمعه مع السابق في الفضل والمقام كما جمعه معه في الذكر.
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
﴿جَنَّـاتُ عَدْنٍ﴾ يقال عدن بمكان كذا إذا استقر ومنه المعدن لمستقر الجواهر كما في "المفردات" أي : بساتين استقرار وثبات وإقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها وهو إما بدل من الفضل الكبير بتنزيل السبب منزلة المسبب أو مبتدأ خبره قوله تعالى ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ جمع الضمير لأن المراد بالسابق الجنس وتخصيص حال السابقين ومالهم بالذكر والسكوت عن الفريقين الآخرين وإن لم يدل على حرمانهما من دخول الجنة مطلقاً لكن فيه تحذير لهما من التقصير وتحريض على السعي في إدراك شؤون السابقين.
وقال بعضهم : المراد بالأصناف الثلاثة الكافر والمنافق والمؤمن أو أصحاب المشأمة وأصحاب الميمنة ومن أريد بقوله تعالى :﴿وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ﴾ (الواقعة : ١٠) أو المنافقون والمتابعون بالإحسان وأصحاب النبي عليه السلام أو من يعطي كتابه وراء ظهره ومن يعطي كتابه بشماله ومن يعطي كتابه بيمينه.
فعلى هذه الأقوال لا يدخل الظالم في الجنات لكونه غير مؤمن وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو الأصح وعليه عامة أهل العلم كما في "كشف الأسرار".
قال أبو الليث في تفسير أول الآية وآخرها دليل على أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون.
فأما أول الآية فقوله :﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ﴾ فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة.
وأما آخر الآية فقوله :﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ إذ لم يقل يدخلانها.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١١
ـ وروي ـ عن كعب الأحبار أنه قيل له ما منعك أن تسلم على يدي رسول الله عليه السلام قال : كان أبي مكنني من جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها فخرج أبي يوماً لحاجة فنظرت فيها فوجدت فيها نعت أمة محمد وأن يجعلهم الله يوم القيامة ثلاثة أثلاث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنة وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت وقلت لعلي أكون من الصنف الأول وإن لم أكن من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ﴾ إلى قوله :﴿يَدْخُلُونَهَا﴾.