﴿لَقَدْ﴾ اللام جواب القسم أي : ولله لقد ﴿حَقَّ الْقَوْلُ﴾ وجب وتحقق ﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ أي : أكثر القوم الذين تنذرهم وهم أهل مكة ﴿فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي : بإنذارك إياهم والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله.
واختلفوا فقال بعضهم : القول حكم الله تعالى إنهم من أهل النار.
وفي "المفردات" علم الله بهم.
وقال بعضهم : القول كناية عن العذاب أي : وجب على أكثرهم العذاب.
والجمهور على أن المراد به قوله تعالى لإبليس عند قوله :﴿لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٢) ﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٥) وهو المعنيّ بقوله :﴿وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ (الزمر : ٧١) وهذا القول لما تعلق بمن تبع إبليس من الجنّ والإنس وكان أكثر أهل مكة ممن علم الله منهم الإصرار على اتباعه واختيار الكفر إلى أن يموتوا كانوا ممن وجب وثبت عليهم مضمون هذا القول لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يقتضيه بل بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار وعدم
٣٦٩
تأثرهم من التذكير والإنذار.
ولما كان مناط ثبوت القول وتحققه عليهم إصرارهم على الكفر إلى الموت كان قوله :﴿فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ متفرعاً في الحقيقة على ذلك لا على ثبوت القول.
فإن الكاشفي (مراد آنانندكه خداى تعالى ميدانست كه ايشان بركفر ميرند يابر شرك كشته شوند ون أبو جهل واضراب او) وحقيقة هذا المقام أن الكل سعيداً كان أو شقياً يجرون في هذه النشأة على مقتضى استعداداتهم فالله تعالى يظهر أحوالهم على صفحات أعمالهم لا يجبرهم في شيء أصلاً فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غيره فلا يلومن إلا نفسه والأعمال أمارات وليست بموجبات فإن مصير الأمور في النهاية إلى ما جرى به القدر في البداية.
وفي الخبر الصحيح روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي يديه كتابان فقال للذي في يده اليمنى "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال للذي بشماله :"هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال بيده فنبذهما ثم قال :"فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير" وحكم الله تعالى على الأكثر بالشقاوة فدل على أن الأقل هم أهل السعادة وهم الذين سمعوا في الأزل خطاب الحق ثم إذا سمعوا نداء النبي عليه السلام أجابوه لما سبق من الإجابة لنداء الحق.
وإنما كان أهل السعادة أقل لأن المقصود من الإيجاد ظهور الخليفة من العباد وهو يحصل بواحد مع أن الواحد على الحق هو السواد الأعظم في الحقيقة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
قال بعض الكبار : من رأى محمداً عليه السلام في اليقظة فقد رأى جميع المقربين لانطوائهم فيه ومن اهتدى بهداه فقد اهتدى بهدي جميع النبيين.
والإسلام عمل.
والإيمان تصديق.
والإحسان رؤية أو كالرؤية فشرط الإسلام الانقياد وشرط الإيمان الاعتقاد وشرط الإحسان الإشهاد فمن آمن فقد أعلى الدين ومن أعلاه فقد تعرض لعلوه وعزه عند الله تعالى ومن كفر فقد أراد إطفاء نور الله والله متم نوره وفي "المثنوي" :
هركه بر شمع خدا آردفو
شمع كى ميرد بسوز ووزاو
لما قال المشركون يوم أحد أعل هبل أعل هبل أذلهم الله وهبلهم وهو صنم كان يعبد في الجاهلية وهو الحجر الذي يطأه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة وهو الآن مكبوب على وجهه وبلط الملوك فوقه البلاط فإن كنت تفهم مثل هذه الأسرار وإلا فاسكت والله تعالى حكيم يضع الأمور كلها في مواضعها فكل ما ظهر في العالم فهو حكمة وضعه في محله لكن لا بد من الإنكار لما أنكره الشارع فإياك والغلط.
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾.
﴿إِنَّآ﴾ بمقتضى قهرنا وجلالنا ﴿جَعَلْنَا﴾ خلقنا أو صيرنا ﴿فِى أَعْنَـاقِهِمْ﴾ جمع عنق بالفارسية (كردن) والضمير إلى أكثر أهل مكة ﴿أَغْلَـالا﴾ عظيمة ثقالاً جمع غل، بالضم وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد سواء كان من الحديد أو غيره.
وقال القهستاني : الغل الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس.
وفي "المفردات" أصل الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه وغل فلان قيد به.
وقيل للبخيل هو مغلول اليد قال تعالى :
٣٧٠


الصفحة التالية
Icon